جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

محمود بقشيش.. المتمرد على الثوابت

تتميز الحركة النقدية المصرية فى مجال الفنون التشكيلية، بشكل خاص، بعطاء تاريخى بديع لنخبة من النقاد المبدعين من أصحاب الرؤى والخلفيات والتخصصات المتنوعة، نقد أكاديمى علمى، ونقد يمارسه أهل الإبداع التشكيلى؛ اعتمادًا على واسع خبراتهم وممارساتهم الإبداعية المشهود لها.
والأمر الرائع الملاحظ عبر استمرارية تلك الحركة وتدفق إنتاجها ظهور شباب واعد ومتميز فى مجال النقد ولا نشعر بأى حالة من الانقطاع أو التراجع النسبى فى تقديم المستوى المتميز.
يحدث ذلك رغم ما يعانيه الناقد التشكيلى من بعض محبطات الإبداع مثل:
• عدم وجود مجلات متخصصة تتمتع بإمكانات تقنية عالية فى مجال الطباعة الملونة، ولا يجد الناقد الفرصة الإيجابية فى دعم وجهة نظره النقدية بعد أن تتولى الجرائد والمجلات غير المتخصصة أمر تشويه أعمال الفنانين وتشويه دون علم جوانب النقد التى اجتهد الناقد فى إبرازها عند تغطية المعارض والاحتفاليات الدورية بفنون أهل الإبداع.
• لا توجد حركة ترجمة مقبولة تسهم فى تواصل الثقافات والمعارف المتعلقة بإسهامات أهل الإبداع فى دنيا العالم المعنى بالحداثة وتطوير صناعة الحضارة.
• المعاناة من تراجع الإعلام المرئى عن أداء دوره فى تغطية الفعاليات والأحداث التشكيلية بفهم وخبرة وثقافة تشكيلية، ولعلنا نتابع فضائح استضافة هواة بلا مواهب باعتبارهم رموزًا للفن الجميل «لقد تابعنا استضافة أحد الهواة من أصحاب أكشاك الرسم والحديث عن تكريم المسئولين له لمساهمته فى تجميل بعض الجدران، والمذيعة تعيش حالة سعادة محفزة وداعمة للضيف، بينما تعرض أعماله المشوهة لتلك الجدران وكان ينبغى التحقيق معه ومع من منحه جدران بلادى لتشويهها.. حالة جدب ثقافى ومعرفى من جانب إعلام مرئى فقير !!».. وإن كانت هناك وقفات إيجابية من جانب رموز العمل الإعلامى المستنير عبر الإعلام الخاص، من منا لم يتابع حلقة برنامج «آخر النهار» ومقدمه الإعلامى القدير «د. محمد الباز» وهو يصرخ مناشدًا المسؤولين تحطيم التمثال البشع للملك رمسيس الثانى والمقام أمام مبنى محافظة مرسى مطروح، والذى قال عنه «الباز» إنه تشويه للحضارة المصرية ولرمسيس الثانى، قائلًا: «اللى عامل التمثال ده مبيض محارة».. وعليه تمت إزالة ذلك المسخ البشع، ولكن للأسف تتكرر مثل تلك التجاوزات، مما يشير لتضاؤل الوعى الفنى والثقافى لدى قطاع من المسؤولين للأسف!!
• معاناة الناقد فى البحث عن دور نشر لإصدار كتاب فى مجال النقد التشكيلى بشكل لائق لا ينال من مضمونه ورسالته رداءة تقنية الطباعة والتلوين، وأعتقد ضرورة تدخل وزارة الثقافة لدعم ذلك الإنتاج المهم لتأمين ترقية الحس والذوق الفنى ومقاومة ثقافة القبح.  
كانت تلك وغيرها ما دعانى للاقتراب من رموز النقد الفنى العظام وتوجيه مصابيح التنوير نحوهم للإشارة لأدوارهم الرائعة فى سلسلة مقالات على صفحات جريدتنا الغراء «الدستور».
وفى هذا العدد موعدنا مع نجم من نجوم الإبداع الفنى والإبداع النقدى الفنان التشكيلى والناقد الراحل «محمود بقشيش»، وقد اخترت للمقال عنوان «محمود بقشيش.. المتمرد على الثوابت»؛ امتدادًا لعنوان كتابه المهم «التمرد على الثوابت.. بحثًا عن جمالية مغايرة».
تعرفت بشكل شخصى على الفنان الراحل عند مشاركتى بمعرض لفنانى كفرالشيخ وكنت حينها فى بداية أيام دراستى بكلية الفنون التطبيقية «السنة الإعدادية».. وتعمدت الاقتراب منه وهو يشاهد أعمال المعرض وأستمع لتعليقاته النقدية البديعة والمخلصة والجريئة التى أفادتنى كثيرًا ولم أنسها، ولعل أطرفها تعليقه على لوحة تحتشد برموز السلام الحمام وغصون الزيتون.. ولكن يسألنا «بقشيش» أين السلام الذى يحدثنا عنه الفنان وقد وضع على سطح اللوحة طبقات لونية بارزة لها أطراف مدببة شريرة جدًا؟
بداية، يقول «بقشيش» الفنان: «بالنسبة لى، لا أدخل إلى اللوحة بخطة مسبقة، بل أدخلها بريئًا كطفل.. وأنتظر من سطح اللوحة الأبيض النظيف- أحيانًا- والعشوائى- أحيانًا أخرى- أن يلهمنى بموجوداتى الفنية التى لا تلبث أن تتسلل من ذاكرة مسكونة بالبحر وبالكثبان الرملية والأطلال والعمائر الفطرية وأحزان الحرب والتخلف، وأجدنى وقد تقمصتنى روحان متعارضتان، روح صائد اللآلئ، وروح المتعبد الزاهد من أجل سلامة روحه وسلامة أرواح الآخرين، فى زمن مات فيه الفنان/ النبى، واحتل مكانه الفنان رجل الأعمال والناقد السمسار».
تقول ملفات الميلاد والتنشئة: «ولد محمود بقشيش بكفر الزيات وكان والده يعمل فى خفر السواحل، فتنقل مع أسرته من موقع إلى آخر حتى استقر فى مدينة بورسعيد، بينما تنتمى أسرته إلى منطقة المطرية على بحيرة المنزلة فى محافظة الدقهلية.. كانت دراسته الابتدائية والثانوية فى بورسعيد، وقد انتقل إلى القاهرة بمفرده عندما بلغ سن العشرين (1958) ليلتحق بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة».
ذكريات الفنان عن طفولته وصباه تتلخص فى أنه واجه أسرة عسكرية، واختار أن يقف منها موقفًا متمردًا، كان الابن الأصغر فى سلسلة من الإخوة الذكور وأحسَّ أنه مظلوم بينهم، غريب عن عالم الكبار، أما محمود فسار يعمل على تثقيف نفسه وأخذ من الأسرة بعض العادات الحسنة، مثل الاستيقاظ المبكر وتقديس العمل وغيرهما من العادات الانضباطية.
على مستوى المدرسة كان يتمتع بمكانة مرموقة بسبب مهارته فى الرسم، فكان لامعًا فى الفصل، وكان له أخ يكبره بسبع سنوات، هو الذى حفزه إلى عشق الرسم وأحضر له بعض الأدوات التى عاونته ليسير فى طريق الفن، بينما أيقظ أخ آخر رغبته فى الكتابة وحرّضه على القراءة والمعرفة.
بعد التخرج عام 1963 اتجه إلى الأقاليم.. كان يركز اهتمامه على الارتقاء بالمواطنين بعيدًا عن القاهرة.. وكان تعيينه فى كفر الشيخ، وأعلن عن أن الفنان مدين لمواطنيه فى كل مكان، بل يجب أن تكون للأقاليم الأولوية فى الاهتمام الثقافى.. وكان ذلك مواكبًا لمرحلة إنشاء قصور الثقافة ونداءات الدكتور ثروت عكاشة «عندما كان وزيرًا للثقافة» إلى شباب المثقفين لتحمل مهمة العمل فى الريف.
فى تلك الفترة شارك فى تحرير مجلة «سنابل» وإخراجها، وكانت تخاطب المثقفين، وتنشر فكرهم وإبداعهم وتنفق على طباعتها محافظة كفر الشيخ.
ويطرح بقشيش السؤال والجواب:
ماذا أريد؟
ـ ما أريده لنفسى هو ما أريده للآخرين.
- أن يشغلنا سؤال حضارى نبحث به عن هويتنا فى عصر الاجتياح.
- أن نكشف صيغة مستقلة، لا هى تابعة للنموذج الأوروبى، ولا هى ناسخة لإنجازات الموروث المصرى، والعربى، بل محاورة لها، ولإنجازات العالم الثالث فى الفن، أملًا فى تشكيل ملامح جديدة لفن قومى إنسانى.
    يقول الفنان الناقد «محمود بقشيش» فى مقدمة كتالوج أحد معارضه: «البيوت، الصناديق الفارغة، أو الممتلئة بالنفايات، النوافذ المغلقة.. تحاول اعتقال الضوء بلا جدوى النوافذ المنفتحة لا تكشف عما بالداخل من أسرار، بل تكشفها آثار العنف على الجدران، الظلال المباغتة.. ثقيلة الوطأة تمتد فى مساحات العزلة، والخوف.. أما الغلالات الشفافة.. فإنها تنتصر أحيانًا وتنهزم أغلب الأحيان لتترك المجد، والبطولة للنفايات! العبث الذى نرفضه يتحقق، والعدل الذى نحلم به مستحيل!».
  أمر طيب أن يصدر عن المجلس الأعلى للثقافة كتاب «تمرد على الثوابت بحثًا عن جمالية مغايرة» للفنان التشكيلى محمود بقشيش، ويحوى بين طياته مجموعة من الدراسات النقدية التطبيقية حول إبداعات عدد من الفنانين المصريين والأجانب ينتمون إلى أساليب فنية مختلفة تجمعهم المحاولة- بشكل متفاوت- فى التمرد على الثوابت لاكتشاف جمالية مغايرة للسائد، ومناقشة المسلمات، وكشف الزيف، والكتاب- كما يعتبره المؤلف- دعوة إلى القارئ الناقد للحوار أملًا فى إثراء الحياة التشكيلية، كما يعرض سيرًا ذاتية للعديد من الفنانين ومجموعة من اللوحات والأعمال الفنية منها لوحة «ديكران باشا» للفنان الأرمنى دمرجيان، وأخرى رسمها الفنان الفرنسى جان ليون جيروم، وآيات قرآنية من الخزف للفنان محمد شعراوى، وتمثال لعميد الأدب العربى طه حسين- والذى اُختير غلافًا للكتاب- للفنان عبدالهادى الوشاحى، فضلًا عن مجموعة كبيرة من أعمال الفنانين حسن سليمان وكامل زهيرى وجورج بهجورى وحلمى التونى وصلاح بيصار ومحمد الشعراوى وحسن عثمان وفاطمة عباس، ومصطفى أحمد وزينب عبدالحميد وأبوخليل لطفى ومحمد شاكر وغيرهم.
ويعتبر الكتاب هو الجزء الثانى لكتاب «تجليات فى النقد التشكيلى» الذى دارت موضوعاته بين عام 1983- 1995 عن فنانين برؤى مختلفة تجمعهم محاولة التأكيد على الهوية المصرية، حسبما ذكرت الكاتبة والناقدة الرائعة «هدى يونس» فى التعريف بالكتاب، وقالت «هدى» زوجة الناقد التشكيلى الراحل محمود بقشيش، فى بيان صحفى: «عند فقد النسخة الأخيرة لأول كتاب ظهر بعد ارتباطنا بسنتين «البحث عن ملامح قومية»، الصادر عن دار الهلال 198.. وجاءت ضرورة إعادة طبعه».
‏وتابعت: «كنت أرى الجهد والوقت والقلق قبل وأثناء الكتابة، قلت له (اهتم بالرسم).. رد ‏بيقين هادئ (الرسم والكتابة يكملان بعض)، الصعوبة أن تكون أحكامك ملمة بتقنيات العمل، والرؤية واللغة كى يكون الحكم نزيهًا، الكتابة أتركها للأجيال القادمة، لتنير طريقهم».