جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عودة روح أكتوبر

على هامش كلمة الرئيس السيسى فى احتفالية أكتوبر بالأمس، وجدت نفسى أفكر فى «روح أكتوبر».. تلك التى أسمع عنها ولم أكن أراها.. إننى من جيل وُلد فى عام الحرب وأصبح عمره من عمرها تقريبًا.. وكان من سوء حظى أن انتصارنا كان خلفنا وأن سنوات عمرنا تراكمت بلا انتصارات جديدة.. فى كل احتفال منذ بدأت أعى ما حولى فى الثمانينيات المبكرة كنا نتحدث عن روح أكتوبر لكننا لا نجد لها أثرًا على الأرض.. فالتطرف يتقدم كل يوم ويحتل مساحات جديدة على الأرض كل يوم.. والصحف تنشر أخبار الفساد قضية بعد قضية وحادثة بعد حادثة، وهناك من المسئولين من يبرر الفساد ويقول إنه موجود فى كل بلاد العالم.. ودخان الشائعات يكاد يخنقنا ويعمى عيوننا عن النظر بأمل للمستقبل.. والدولة نفسها عجوز عقيم.. والمسئول فى الستين يقال عنه مسئول شاب ويعاد تعيينه فى منصب جديد بمناسبة وصوله الستين!

حين كبرت وبلغت أشدى أدركت أن كل شىء فى مصر كان موجودًا ما عدا روح أكتوبر.. إن روح أكتوبر كانت هى الفداء.. ومعناه أن يقدم الشخص روحه لبلده كما قدمها عبدالمنعم رياض وإبراهيم الرفاعى وألوف غيرهما.. عرفت أن روح أكتوبر تعنى ألا يفكر الشخص فى مكاسبه أو راتبه بل فى بلده.. تأكدت أن كل القادة الذين خططوا والرجال الذين عبروا لم يفكروا سوى فى العطاء لا فى الأخذ، لذلك حققنا الانتصار.. وكانت المأساة أن الذين تخاذلوا سرقوا مكاسب الذين أقدموا.. وأن الذين هربوا سرقوا انتصار الذين عبروا.. وعرفت أن روح أكتوبر لفظت أنفاسها بالنسبة لى مع خروج أنفاس خالى جندى مقاتل «محمد على على»، الذى ظل سبع سنوات فى الخنادق يقاتل من أجل وطنه الذى ضن عليه بوظيفة لائقة فانفجر كبده ألمًا وحسرة ولاقى ربه شهيدًا للظلم وسوء التقدير.. أقول دون رياء أو نفاق إن مصر لم تستعد روح أكتوبر سوى بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ لا قبلها بيوم واحد.. إن روح أكتوبر هى أن نحلم ببلد عظيم، وأن نعمل من أجل تحقيق هذا الحلم.. روح أكتوبر تعنى أن يحلم المسئول عن السياحة أن تصبح مصر أهم بلد سياحى فى المنطقة وأن يعمل ليل نهار لتحقيق هذا الحلم، وأن يحلم المسئول عن الصناعة بأن تصبح صادراتها الصناعية مائة مليار دولار كل عام وأن يخطط ويعمل من أجل تحقيقه هذا الحلم، وأن يحلم المسئول عن التعليم بعودة التعليم المصرى لسابق عهده منذ عقود وأن يعمل من أجل تحقيق هذا الحلم.. إننى أخشى أن هناك من أعداء هذا البلد من أرعبته روح أكتوبر الحقيقية التى ظللت مقاتلينا فى العبور فعمل على إفسادها وإزهاقها وتخريبها.. حتى ظللنا سنوات طويلة نسمع عنها ولا نراها.. بل نرى عكسها طوال الوقت.. وكانت الكارثة أن معظمنا لا يعرف ما يراد بنا مثل مريض يتعاطى سمًا بطيئًا على يد قريب له.. تتدهور صحته لكنه لا يعرف السبب ولا العلاج، ولعل هذا هو انعدام الوعى أو غسيل الدماغ أو «الجهل» الذى تحدث عنه الرئيس بالأمس كواحد من أعداء هذا البلد، وكان من نتيجة إزهاق روح أكتوبر أن تراجع العمل والتخطيط لحساب اقتصاد الريع فزاد «الفقر» وهو العدو الثانى الذى تحدث عنه الرئيس، وكان من نتائج الخضوع والتبعية وانعدام الوطنية أن سادت ثقافة «التخلف» إرضاءً لمن لا يريد الخير لهذا البلد، فقيل للناس إن الملائكة هى التى عبرت وهى ترتدى ثيابًا صفراء بدلًا من أن يقال إن الله أيدنا بنصره مكافأة لنا على العمل والعرق والإخلاص.. وكان أن تم بيع مصر للمتطرفين بأنواعهم يحكمونها من أسفل ويتركون المناصب العليا لأصحابها.. فى أكبر مؤامرة على روح أكتوبر وعلى ميراث الوطنية المصرية التى حماها الجيش المصرى جيلًا بعد جيل.. وحده الجيش المصرى كان بعيدًا عن التطرف والتخلف والجهل والعوز، وظل يحمل فى قلوب رجاله روح أكتوبر حتى آن أوان إذكائها من جديد.. إن روح أكتوبر ليست سوى التخطيط و«العمل الدءوب» و«العمل الدءوب» و«العمل الدءوب»، كما كررها الرئيس فى خطابه بالأمس ثلاثًا.. لا سامح الله من حرمونا من روح أكتوبر.. وجزى الله من أعاد إحياءها كل خير.