جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

أكتوبر رحلة النسوة ما بين الإسراء في الجبهة حتى معراج القضاء

يميل الرأي العام على مر التاريخ للاعتقاد فى أن النساء أوقات الحروب والنزاعات هم دائما، وبصورة مطلقة  ضحايا والأكثراستسلاماً وضعفاً أمام المخاطر وفي حاجة للحماية، وتقديم العون لهم كونهن غير قادرات على إيجاد حلول بمفردهن، وذلك الاعتقاد مبني على أن هذا الضعف مستمد من كونهن نساء فقط ،ولا مبرراً منطقيا لتصنيف الضعف لنوع باستثناء الآخر حيث إن قصص التاريخ بأسره، وما روى في الكتب المقدسة وتراث الأديان ينفى هذا الادعاء لأي صاحب بنان وبيان.


وإن أردنا وضع الأمور في نصابها الصحيح ؛فسنلاحظ أن الحروب على مر العصور قد خاضها الرجال وتحمل مسئوليتها النساء ،فهن من يسكن المدن حينما يهجرها الرجال، ويصنعن الأمان كوجبة دسمة للطرقات؛ حينما يذهب الجنود لساحات المعارك، ويعملن بكد مستمر من أجل توفير الخبر والرعاية لأبنائهن، بل يصبحن صانعات رأس المال الذي سيداوى خسائر الحرب، ويشد عضد أمتهم لاستعادة قواها واستكمال مسيرتها ،ويصبحن المداويات لآثار القتال على أجساد رجالهن.


كل ذلك انعكاس لشجاعة وبأس النساء، وقوتهن، وحكمتهن، ورعايتهن المتضاعفة خاصة في وقت الحروب، ولتصحيح المسار فقد نستدل أنهن الأكثر ضعفاً بالأكثر تعباً وجلداً ،وتضرراً فهن من يعانين أصعب الأوضاع الاقتصادية والصحية والاجتماعية والنفسية في البلاد ،ويتحملن مسئولية التكيف والرعاية مع كل هذه الضرائب الباهظة التي تلقى عليهن.


وإن تركنا الشأن العام وتوغلنا في خبايا هويتنا ،ومصريتنا  المستوطنة في عروق عراقتنا فسنجد نصيب الجدات، وشجاعتهن دائما حاضرة في كل سطر من التاريخ القديم والحديث، فلا تفانى ولا بأس في تاريخ أي أمة يضاهى ما قدمته البهية المصرية الأبية، دون أن تنتظر أي مقابل ،فكل ما بذلوه فى الأمس كان برهاناً من طراز فاخر يثبت أننا المصريون برجالنا ونسائنا نملك جينات تطغي على أي قوالب فكرية، وتظهر معدن شجاعتنا، ورباطة جأش أمتنا المتأصل حتى في صغارنا.


وها نحن في بدايات ليالى أكتوبر المجيد، شهر الحرب والحسم ،شهر البداية والنهاية، شهر الانتصار والسلام، شهر الهيبة والعزة لأمتنا المصرية التي تحملت بشعبها وأرضها الكثير من الاستنزاف والاستهلاك لأرواح أبنائنا وسيادة أراضينا.


ولا يخفى على أحد أن نساءنا منذ تسعة وأربعين عاما مضوا لم ينحصر دورهم في تربية الأبطال والشهداء ،وتحمل تبعات المسئولية أولاً وألم الفراق ثانياً، أو تضميد الجراح والآلام لمقاتلينا وحسب، ولكن المؤسسات كن أشجع وأقوى مما نتوقع، كن نساء من طراز فريد في مجابهة العدو وجهاً لوجه بشكل يستحق الانحناء احتراماً منا جميعاً لهن، فمن منا لم يسمع عن بأس نسائنا في بدو سيناء ودورهن منذ النكسة حتى حرب أكتوبر في تهريب الفدائيين عبر الطرق التي لا يعرفها العدو، ونقل المعلومات والرسائل، وتوصيل السلاح والقنابل والمتفجرات للجنود المصريين وتوزيع الخبز والدقيق على الجبهة لأبطالنا الشجعان، وتضميد الجراح لهم، بل وكن يزرعن بأنفسهن الألغام في أراضي سيناء للفتك بالعدو.

 والأغرب أن الجدات من البدو اللاتى لم يتقن يوماً فنون الحرب قد أقمن معسكراً من أجل التدريب على إشغال القنابل وإطلاق الرصاص وغيرها من الأمور التي زرعت بفطرة الانتماء وشجاعة الجينات وأصالة العرق المصري وتتجسد تلك الحكايات فى أسماء عظيمة من البطلات السيناويات، كالسيدة فهيمة التي تعد أول امرأة تجند من المخابرات الحربية لرصد المواقع الإسرائيلية على الضفة ،وكذلك المناضلة مريم التي كلفت بتمهيد الطريق للفدائيين ورصد تعداد قوات العدو.

ولا يفوتنا بطلتنا فرحانة سلامة التي لعبت دوراً محورياً فى النصر بنقلها الأوامر الأمنية للضباط وقيادات سيناء رغم التشديد والتضييق الأمني من قبل الاحتلال حينها ،وبهيتنا فوزية التى تلقت تدريباً أيضا على نقل الرسائل والأوامر من القاهرة لسيناء وقت الحرب وإستطاعت أداء مهتها بطريقه لم تتمكن قوات العدو من كشفها مطلقاً .


ومن حكايات مناضلات سيناء لقصص صمود بهية في السويس والقناة قلوبنا تغمرها السعادة ؛كلما تبحرنا في أدب الحرب فمن يستطيع أن ينكر ما بذلته السيدة فاطوم التي قدمت كل ما لديها وكل قوت بيتها للجنود ورجالنا حينما إشتد الخناق والحصار عليهم، فشجاعة فلاحة فايد حين قامت بدور إستطلاعى و اختبأت بين الأشجار، وهى تحمل ابنها الصغير لتضليل العدو في مواقع تمركزه بزايد وسرابيوم، بل إنها طلبت من الضباط إمدادها بالعدة والقنابل من أجل تدمير دبابات العدو، رافقتها الحكيمة إصلاح محمد على وطاقمها الطبي من الممرضات بمستشفى السويس الذي لم تغفل عينهن،  يعملن طوال اليوم تحت القصف دون أن يتركن موقعهن من أجل إنقاذ أرواح أبطالنا ،والمناضلة عليه الشطوي التى صمدت بالمشفى تحت القصف رغم تجريم ذلك حتى اللحظة الأخيره ،وهي تساهم في نقل المصابين ومن ثم المعدات الحربية في نفس عربات المشفى التي تحمل الجرحي.


من يمحو من تاريخنا زوجات الشهداء ودورهن كأرملة الشهيد مدحت مكي ؛السيدة سهير حافظ التي لم تكتفى بتقديم الزوج وفقده بل كرست حياتها بأكملها للخدمة بالهلال الأحمر فيما بعد ،من يجحد دور النساء في مرافقة الرجال في بناء حوائط الصواريخ وعمل الفلاحات تحت القصف في الزراعة ،وبناء الحواجز والدشم والصمود بجانب الجنود وإمدادهم دون تخاذل حتى انتهاء الثغرة ،من الذي أجبر أكثر من 30 ألف فتاة مصرية من الجامعات والمدارس للتطوع بأعمال الإسعاف خلال الحرب ،ومن فرض علي 13 ألف سيدة غيرهم للانضمام للتنظيمات النسائية للتدريب والتأهيل على عدد من الأدوار للمساهمة في استيرداد الأرض ،ومناصفة الرجال في دور وطني عظيم ومحبة وانتماء فطري.


وفي اعتقادى أن أكثر ما يبهج الجدات أن جيناتهم ما زالت ممتدة وحاضرة في خطوات الحفيدات اللاتي ما زلن يخضن اليوم معارك من أجل إثبات وجودهن ،وأهمية مشاركتهن في العمل العام بأسره،يستأنفن  حروب الكرامة، ويأبين أن يتركن حقوقهن، وكأنهن أقسمن أن يعيشوا أبد الدهرأبيات لا يقبلن إهانة أو سيادة  في غير محلها، وقد شاء القدر أن ينلن أكبر الاستحقاقات التي طال انتظارها في توقيت النصر المجيد، فمع حلول أكتوبر صعدت المصريات منصة القضاء، وجلست علي مقاعد النيابة العامة وطالت بهية مناصب حجبت عنها في العصر الحديث لسنوات دون وجه حق.


ولا عجب في دعم وإيمان القيادة السياسية بدور المرأة المصرية ،وقدرتها العظيمة وعزيمتها الواضحة فمن يحفظ التاريخ عن ظهر قلب، ليس كمن يقرؤه ،فما بالك بمن عايشه وخالطه حتى أصبح  لديه رؤية تتجسد في استعادة بطولات الماضي باستحقاقات اليوم.


ودعنى أذكر نفسي وإياكم أننا أبناء حضارة وتاريخ لم تتبنى يوماً إعتقاداً يحقرأو يستهين من رجالنا أو نسائنا، فقد تتفرق الأولويات والأفكار، ويعود التاريخ بذكراه دوما ينبهنا أن كلانا تجمعنا دوما مصريتنا وشجاعتنا ،والزهد فى الذات فى مقابل الأرض والوطن، أننا دوماً سدود منيعة ضد فرض أو إكراه وسنظل نسقط أى قصف مهما كان شدته، فحصوصننا منيعة وعضدنا مشتداً ببعضنا أبد الدهر فلنهنأ اليوم ولنستكمل الغد معاً.