جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

سرقة المسلات المصرية «2»

وقتها لم تكن للولايات المتحدة الأمريكية القوة، ولا السطوة الكافية للتقدم بطلبها مباشرة إلى الخديو، لذا طلبت توسيط هذا المقاول الذى اعتذر عن التدخل، وصرفت النظر عن فكرة الحصول على المسلة.
وفى فبراير عام 1879 وأثناء زيارة القنصل العام للولايات المتحدة الأمريكية ألبرت فارمان برحلة إلى الوجه القبلى، شاهد المسلة القائمة عند معبد الأقصر، والتى أخذ الفرنسيون شقيقتها الثانية، كما شاهد أيضًا المسلتين القائمتين عند معبد الكرنك. 
كانت إحدى مسلتى معبد الكرنك، وهى المسلة الصغرى، قد كسر أحد أركانها، وكانت مشقوقة بشكل لا يسمح بنقلها دون أن تتعرض للخطر، ولم يبق لديه إلا مسلتا الأقصر والإسكندرية، لم يضع القنصل فى اعتباره المسلة الكبرى لمعبد الكرنك المقامة منذ ثلاثة آلاف وأربعمائة سنة، لأنها قائمة فى نفس المكان الذى وضعتها فيه الملكة حتشبسوت، وبالطبع لا يمكن لمصر أن تفرط فيها.
كان القنصل الأمريكى واثقًا من موافقة الخديو، وكانت ثقته تستند إلى الأدب الذى يتصف به الحكام الشرقيون، وخصوصًا المستنيرين منهم، فهم لا يرفضون أى مسألة رفضًا باتًا، ولا يرفضون بطريقة مباشرة، وأنهم على عكس الغربيين الذين لا يعرفون الكياسة أو المجاملة.
وعندما تحدد للقنصل موعد لمقابلة الخديو إسماعيل فى مارس 1779، أحاط القنصل الأمريكى خديو مصر علمًا برغبة الشعب الأمريكى فى الحصول على مسلة، أسوة بالشعبين الفرنسى والإنجليزى، وقال القنصل:
«... إن أمتنا كانت صغيرة، وإن ما تقوم به من الأعمال حديث العهد، لذا فإن أثرًا واحدًا من الآثار المصرية، سوف تكون له قيمة أكبر فى الولايات المتحدة الأمريكية عنها فى بريطانيا أو فرنسا، وإن سموه سيطوق عنقنا بمثل هذه الهدية، فإنه ليسرنا أن تقبل أى مسلة يقع اختياره عليها».
وذكر القنصل مسلة الإسكندرية أمام الخديو.
اعترت الخديو الدهشة عندما تحدث القنصل عن المسلة. وتبادل مع القنصل كلمات المجاملة، وعند انصراف القنصل أخبره الخديو بأن يتحدث معه فى وقت آخر مقبل.
قابل القنصل الخديو مرات عديدة، دون التوصل إلى نتيجة محددة بشأن المسلة.
فى تلك الأثناء، كان الخديو وقتها يمر بضائقة مالية، سببتها الديون الثقيلة التى أنفقها على احتفالات القناة، وتلك التى أنفقها على تحديث مصر لتحويلها إلى قطعة من أوروبا. وكان دائنون من الأوروبيين يبحثون مع حكوماتهم سبل الضغط على الخديو لسداد تلك الديون، وهو ما أدى لتكوين لجنة تحقيق دولية لمعرفة صافى إيرادات الدولة، مما أدى فيما بعد إلى فرض الرقابة المالية على الحكومة المصرية. 
لذا لم يكن مهيأ تمامًا ليستمع الخديو إلى قنصل أمريكا. 
وفى إحدى ولائم العشاء، وكانت حالة الخديو الذهنية قد تحسنت، فقد وافقت الدول الأوروبية على رئاسة فرديناند ديليسبس صديق الخديو إسماعيل، للجنة الدولية، وفى حضور ثلاثة وأربعين مدعوًا هم أعضاء اللجنة، أخبر الخديو القنصل الأمريكى بموافقته على منح المسلة! 
كان الخديو فى تلك اللحظة يتهرب من الحديث عن تحديد سعر الفائدة فى حضور أعضاء اللجنة، كما كان ديليسبس يتحدث عن أفضل الطرق لتحديد قيمة الإيرادات المصرية، وهو ما لم يرحب الخديو بالاستماع إليه. لذا فإنه حاول أن يغير مجرى الحديث، والتفت إلى القنصل الأمريكى وقال:
- مستر فارمان يرغب فى الحصول على مسلة؟
وعلى الفور أجاب ديليسبس:
- إن ذلك سيكون شيئًا رائعًا لشعب الولايات المتحدة الأمريكية.
وسكت الخديو برهة وقال:
- إنى لا أرى مانعًا فى إعطائهم واحدة، وإن ذلك لن يضرنا فى شىء، ولسوف يكون شيئًا عظيم القيمة لديهم.
بعد ثلاثة أيام زار القنصل الأمريكى الخديو، وأخبره الأخير بأنه يفكر فى إعطائهم واحدة، ولكنها ليست مسلة الإسكندرية. وأخبره بأنه سيكتب إلى بروجش بك «نائب مارييت باشا مدير عام الآثار المصرية» ليعرف منه جميع المسلات الباقية فى مصر مع إبداء الرأى فى أى المسلات يمكن الاستغناء عنها. 
وبعد أيام قليلة تقابل القنصل مع بروجش. كان فرنسيًا، ولم يكن بروجش يظهر الود للأمريكيين، وأخبره بروجش بأن عملية نقل المسلة سوف تخلق نوعًا من العداء، لأن علماء أوروبا يعارضون هذا العمل، ومع ذلك فقد كتب بروجش إلى الخديو وصفًا شاملًا لكل المسلات، ولم يحدد واحدة يمكن أخذها، بروجش يعارض فكرة نقل أى مسلة من مصر. وكان رئيسه مارييت باشا رئيس مصلحة الآثار غائبًا فى أوروبا وكان أيضًا يعارض الفكرة.
كان رأى بروجش وجيهًا، لأجل هذا لم يتخذ الخديو قرارًا فى تلك المسألة لمدة عام كامل. غير أن القنصل الأمريكى أبدى تحفظه على المعارضة فى نقل المسلة، لأنها أولًا ليست معارضة المصريين، ولكنها معارضة من أوروبيين يقيمون فى مصر بصفة مؤقتة، والذين مهما كانت آراؤهم ومهما كنت استنتاجاتهم مبنية على أسس سليمة، فإنهم ليس لديهم الحق فى الانحياز ضد أمريكا. 
ولم يعر القنصل الأمريكى معارضة بروجش الفرنسى أى اهتمام.
ومن سوء الحظ أن معارضة بروجش كانت داخل الغرف المغلقة، ولم تكن علنية، لأنها لو كانت علنية فربما تحرك المثقفون المصريون على صفحات الجرائد، ومنعوا تلك المهزلة. 
ولكن هل كان فعلًا لدى المثقفين المصريين فى ذلك الوقت الوعى الكافى بمسألة الآثار؟ 
المهم أن القنصل العام الإنجليزى عارض نقل مسلة الأقصر الباقية إلى أمريكا. 
وأخبر زميله الإنجليزى، بأن تلك المسلة تخص الشعب الإنجليزى لأنها أعطيت لهم فى وقت سابق، حين منحها لهم محمد على باشا منذ خمسين عامًا، لأجل هذا فإنه يعترض على نقل مسلة معبد الأقصر وإهدائها إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما أكده الخديو فى مقابلته مع القنصل الأمريكى. 
لم يكن الإنجليز يعارضون نقل المسلة إلى أمريكا لأجل بقاء المسلة فى مصر، بل كانوا يطالبون بالمسلة لأنفسهم.
يتبع.