جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

أشواق شاقة

وحين تسأليننى بخفوت: «مَنْ أنتَ؟». أقول لك بملء القلب: «أنتِ»، وتديرين وجهك بحيرة وألم إلى ناحية أخرى، أقول لك: «أنت»، وتجرح قلبى بحة صوتى إلى لا أحد، وأراك شجرة فتية واحدة فى الكون، وأجلس مستندًا إلى جذعكِ بظهرى وحياتى وقلبى. أتطلع إلى أعلى حيث فاكهتك، حيث عينيك الجميلتين، أحدق بهما، لعلنى أرانى وأنا أراك. وأنا جالس فى ظلك، يغمرنى زمانكِ، الفجر منكِ، والمساء منكِ، فيغمرنى مكانكِ، البيوت أنتِ، والغابات أنتِ، وإذا طالت جلستى وأمطرت السماء على كتفى أعرف أن المطر أنتِ. تتقطر الأزمنة والأمكنة من شعرك المرسل، وتنزلق تغمرنى. المجرات التى تدور، الجبال العالية والسفوح.
يا قلبى الذى هناك وقلبك الذى هنا، ألـيس الحب أن تكون بـيننا مئات الأميال وتتنفـسين هـناك فـتنفتح رئتاى هـنا؟ تـتجولين فى المدن البعيدة فتكل قدماى هنا؟ تغمضين عينيك فيسرقنى النعاس؟ أليس الحب ألا يبقى منى شىء ليس أنتِ؟. أستند بعمرى إليك؟ أطوق عودك الأخضر. أحدق بعينيك المشعتين الشاردتين لعلنى أتذكر مَنْ أنا؟ أو من كنت قبل أن ألقاك؟ لكنك تنظرين إلى شىء بعيد، وتجرح قلبى بحة صوتى إلى لا أحد. 
أراك تهبطين من بيتك فتخرج الشمس تنير الطريق لأجلك وحدك، تتلفتين حولك، تعبرين، تتوقفين عند بابى. تساوين شعرك. تنصتين إلى دقات قلبى العالية وراء الباب. أفتحه بيد مرتجفة، وأقف مأخوذًا بجمالك الذى يتجدد كل لحظة. أضغط يديك بين يدى. كل شىء معد لكى تكونى معى، الأقداح وقطع الخبز الصغيرة، والكلمات التى سنتبادلها بارتباك ثم بحيوية، كل شىء حتى الصمت المشبع بعشقى ونظرتى المتيمة، الصمت القلق من نظرتك المشعة الحائرة مثل غزالة مطاردة. يدور قلبى فى جمالك، وأعلم أننى سأحبك بكل قوة حضورى فى الدنيا وأنا حى، وكل قوة غيابى حينما أغيب، أعلم ذلك، وتجرح قلبى بحة صوتى إلى لا أحد. 
أدرت ظهرك، ورحنا نفترق، ببطء، وصعوبة، كما تفارق الوردة غضنها فيبقى فيها دمه ويبقى فيه عطرها. ألتقط شظايا القلب المكسور من الأرض، أقول لنفسى كل كسرة منها قلب صغير قادر على أن ينهض ويحب، أضعها على كفى وأنفخ فيها، فلا أرى سواك فى أفق يرتجف من النور والحنان. ويغمرنى الحزن، وأنت تذبحين ما بيننا بعذوبة العشق نفسها، بالرقة نفسها، وفى صمت. لا أحزن على كل ما قلته لك، لكن على ما لن أقوله، وعلى بحة صوتى تجرح فى الفضاء قلبى.. إلى لا أحد. 
كنت من قبل أعرف المعادن التى خُلق منها الحب. العشق من ياقوت القلب. الشوق من فضة الخيال. القبلة من ذهب مشتعل. قلق الانتظار من النحاس. ولم أكن أدرى مما خلق الصمت بين المحبين؟ حتى هبط الصقيع وتجمدت الأغانى فى حلوق الطير فعرفت أن الصمت خُلق من الحديد. كم خمشته يداى ونزفت فوقه وبقى موحشًا ثقيلًا، يفوح الزهر من تحته بآخر وأجمل أنفاسه خافتة تحوم حتى يشبع الهواء منها، وأنا أواصل سيرى أبحث عنكِ حتى تجرح قلبى بحة صوتى فى الفضاء.. يا قلبى الذى هناك وقلبك الذى هنا.. إلى متى تبقى عيناك حلالًا على خيالى، حرامًا على حياتى؟