جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«الحرب فى الشرق».. أن تكتب ليحيا العالم

فى رواية «الحرب فى الشرق» للكاتب الدكتور زين عبدالهادى الصادرة حديثًا عن دار بتانة، يخدعنا الراوى بقوله: «تعلمت من العالم، أن من يتذكر هم العجائز! لقد كنت صغيرًا، صغيرًا جدًا لأتذكر! هكذا فعلت بنا الحرب»، فهو لا يتذكر فحسب تفاصيل حياة ممتدة، لأشخاص تختلف صفاتهم ومشاربهم فى الحياة، ولكن تجمعهم صلات قرابة من لحم ودم، فى لحظة تتواجه فيها الحياة مع الموت، يتصارعان فى مدينة بدأت فكرة فى ذهن أحدهم لربط النهر بالبحر أولًا، ثم لربط البحرين معًا، خاطرة لم تزد فى البدء على خريطة الجغرافيا عن أربعين مترًا، أخذت تنمو وتتسع؛ لتضم آلاف الموجودات والحيوات التى أعياها الفقر والعوز، وجاءت الحرب كى تسلبها روحها وبقايا إنسانيتها، لكنها لم تستسلم، وهذا سر بسالتها «الحزن هو أقل الأشياء حضورًا، وكان الفرح عظيمًا، حتى الموت جلب معه السخرية، لا شىء باقيًا على قيمته..». 

طوال صفحات الرواية نتعرف على روح المدينة المتجذرة فى تصرفات أبنائها، مشاكسات الصبى الصغير، رؤيته العالم «أشترى البن بقرشين كاملين بعد أن أتهمه باللصوصية والسرقة وكل قاموس الشتائم، لكنه لا يكف عن الضحك، وفى النهاية يضع ملعقة كاملة من البن فى القرطاس كنوع من تطييب الخاطر، فأهدأ وأنسى كل سرقاته، ولكن ستى لا تتوقف عن شتمه، وفى كل مرة أذهب إليه مشحونًا، أعود هانئ البال».

يسيطر الإيقاع الراقص المتدفق للمدينة السمسمية، والبمبوطية على إيقاع السرد الروائى، فلا نجد حشوًا أو زيادات، ولكن تدفقًا وانسيابية، موجة تجرى خلف موجة، كلاهما محمل بالذكريات التى لا يبقى منها غير روح المقاومة والبقاء، تنتصر الحياة فى مواجهة الموت، كعنقاء تقوم من رمادها تتجدد المدينة التى خلقتها الجغرافيا من زبد البحر، فكان لها خفته ونزقه، وخلقها التاريخ من المكدودين المعافرين للحياة والحريصين على البقاء والمتمركزين خلف التنوع والتعدد الثقافى والعرقى.. فتنتشر الموسيقى والأغانى والأصوات المليحة، ليلى مراد، أسمهان، محمد عبدالوهاب، إديت بياف، ويصير الغناء معادلًا للحياة. 

فى رواية «الحرب فى الشرق» تتنوع الشخوص، تتداخل كنسيج غنى متعدد الطبقات، الأم زينب، الأب محمد، الجد والجدة، العمة أمينة، الخال، بينيلوبى، البقال، السائق. 

كل شخصية نعرف قصتها من مشاهد متفرقة، تشف أكثر مما تبين، تفصل ملمحًا من ملامحها وتترك الباقى كى نكمله بخيالنا الذى يحلق فى أجواء من الغرائبية حينًا وأجواء من الواقعية المفرطة أحيانًا أخرى، تجعلنا نتعاطف مع اغتراب طفل صغير، مهجر من مدينته، منزوع من أحلامه، وهو يتمرد يعلنها صراحة فى وجه المدينة «أعلنت لكل زملائى فى الفصل أنى أكرههم وأكره القاهرة، وتلك المبانى الحمقاء وأكره ألوانهم وطعامهم وكل شىء فيهم، أکره لهجتهم، وأكره رائحتهم». 

أحيانًا يراوغنا الراوى حينما يتنقل من موقع الصبى إلى مكان الشاب الثلاثينى الممتلئ بحكمة التجارب، فيباغتنا بمقولة تحتاج لعمر كى يمكن القبض على مكنونها والرضا بحكمتها «تعلم ستى أنى أقول الحقيقة، هى وأنا فقط- فى هذا العالم- المتأكدان من أن الحقيقة لا يراها كل الناس، بل فقط من لا يرون بأعينهم، بل بقلوبهم وعقولهم..». 

بل يرسم لوحات حية، غنية بالتفاصيل الحية التى تحتاج التقاطها لمهارة ودقة عين رسام، ففى وصف لمجموعة من المهرجين لا يختار الكاتب وجوههم المكدودة أو عيونهم الحائرة، فى الاغتراب والترحال تكون القدمان هما الدليل وهما المعبر الأصدق عن المعاناة، فعليهما أن تتحملا ثقل وأشجان بقية الأعضاء «سار الطابور طويلًا كفيلق يتقدم نحو انتصاره المتوهم الأخير، وإذا ألقيت نظرة فاحصة إلى الأسفل- وتحديدًا- على أقدامهم التى يجرونها فى الرمال، لوجدت من يرتدى حذاء عسكريًا علته الأتربة وتشققت مقدمته، أو حافى القدمين، فأصبح كعباه فى لون تراب الأرض..»، ويتابع فى وصف بديع لأنواع الأحذية المهترئة وغير المنسجمة، فتعكس لنا قسوة الحرب التى تجبرهم على الترحال، وتذكرنى هذه اللوحة بلوحة الحذاء للفنان التشكيلى فان جوخ التى رسم فيها حذاء مهترئًا وترك لنا تخيل قصة صاحبه. 

بهذه الحاسة الفنية يصف تناول جده طعامه «ربما أشعر قليلًا بأن فمه يعرج، لا يمكنه الأكل بطريقة صحيحة، إذ يغمض عينيه ويبدأ بجانب فمه يتحرك كبهلوان السيرك، يدخل جانب خده إلى داخل الفم، ثم يبدأ فى الهرس على (ضراضيره)».

هل قرأت يومًا عن فم يعرج؟ هذه المهارة والدقة الفنية فى هذه اللوحة، وغيرها من اللوحات البصرية المرسومة بالحروف، تؤكد صدق الفتى حين يطلق على نفسه كعنوان لأحد فصول الرواية «الولد الذى أعاد تلوين العالم». ليس هذا فحسب، بل هو الولد الذى يستطيع إحياء العالم بتخليد ذكراه والحكى عنه وترديد أساطيره ورؤاه.

وللحديث بقية..