جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الثقافة والهوية الوطنية

هل يمكن بناء الأمم عن طريق الصناعة والزراعة والتجارة وبناء البنية التحتية من طرق وشبكات للمياه والصرف الصحى والكهرباء فقط؟ هل يمكن الدفاع عن الأوطان ومواجهة الأفكار المتطرفة والإرهاب الذى ما زال يضرب دول العالم ومنها مصر بالمواجهة الأمنية فقط؟ هل يمكن مواجهة التحديات والمخاطر التى تزداد يومًا بعد يوم قاصدة تفتيت وطننا العربى عن طريق تأجيج الحروب الطائفية والمذهبية والعرقية بالمواجهة الأمنية فقط؟

إن حماية وبناء الأوطان لا يمكن أن يكتمل إلا ببناء الإنسان وتنمية الموارد البشرية «رأس المال البشرى المعرفى» وتحقيق كل حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية. وإذا كانت مصر دولة شابة، ثلثا عدد سكانها من الشباب، فإننا نستطيع أن ننطلق للأمام وبأقصى سرعة معتمدين على الطاقات الشبابية المستنيرة عقلًا والمدربة والمؤهلة فى كل المجالات الإنتاجية والثقافية والرياضية.

إن تربية النشء هى الأساس، التى تبدأ منذ ولادة الطفل ودور الأسرة فى تربيته بغرس القيم والأخلاق والسلوكيات التى تقوم على الانتماء والتسامح والمواطنة وعدم التمييز وقبول الآخر فى فترة ما قبل المدرسة، ويتم استكمال ذلك فى مراحل التعليم المختلفة.

الثقافة حق بموجب الدستور الذى أجمع عليه الشعب المصرى فى ٢٠١٤ بعد ثورتى يناير ٢٠١١ ويونيو ٢٠١٣. وتنص المادة ٤٨ من الدستور على التزام الدولة بإتاحة الثقافة لمختلف فئات الشعب دون تمييز بسبب القدرة المالية أو الموقع الجغرافى،.كما تنص المادة ٦٧ على حرية الإبداع الفنى والأدبى مع التزام الدولة بالنهوض بالفنون والآداب ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، لذا لا بد من وضع خطة ورؤية بين الوزارات المعنية «وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى، وزارة التعليم العالى، وزارة الثقافة، وزارة الشباب والرياضة، المجلس الأعلى للإعلام، الهيئة العامة للاستعلامات، وهيئة تعليم الكبار» لمشروع قومى للثقافة المصرية ووضع استراتيجية جديدة للثقافة وذلك بالتعاون مع المجتمع المدنى والهيئات والمنظمات والجمعيات الثقافية.

لنقرأ معًا كلمات رائعة ومعبرة من مقدمة الدستور المصرى «فى مطلع التاريخ لاح فجر الضمير الإنسانى وتجلى فى قلوب أجدادنا العظام فاتحدت إرادتهم الخيرة وأسسوا أول دولة مركزية، ضبطت ونظمت حياة المصريين على ضفاف النيل، وأبدعوا أروع آيات الحضارة وتطلعت قلوبهم إلى السماء قبل أن تعرف الأرض الأديان السماوية الثلاثة». وإذا انتقلنا لفقرة أخرى «نحن نؤمن أننا قادرون أن نستلهم الماضى وأن نستنهض الحاضر، وأن نشق الطريق إلى المستقبل. قادرون أن ننهض بالوطن وينهض بنا». ونستكمل القراءة «نحن نؤمن بأن لكل مواطن الحق فى العيش على أرض هذا الوطن فى أمن وأمان وأن لكل مواطن حقًا فى يومه وفى غده».

لذا لا بد أن يتناول الحوار الوطنى فى لجنته النوعية الخاصة بقضية «الثقافة والهوية الوطنية» التركيز على عدد من القضايا والمفاهيم، التى تبناها عدد من المنتديات والمراكز الثقافية، كما تناولها عدد من الكتاب والمثقفين فى مؤتمراتهم وكتاباتهم ومنها «مقومات مجتمع التسامح والمواطنة»، ولقد أوضح الدكتور عماد جاد فى إحدى الندوات حول نفس الموضوع أن هناك ثلاثة مكونات أساسية للتطرف والتعصب، الأول هو مكون معرفى عن طريق «التعليم والإعلام والثقافة والخطاب الدينى»، أما الثانى فمكون انفعالى يعتمد على الانفعال والغضب الذى يؤدى إلى المكون الثالث، وهو مكون سلوكى يبدأ بتجنب الآخر، ثم الهجوم عليه، وينتهى بالحروب والاقتتال إلى حد الإبادة الجماعية مثلما حدث فى بعض الدول مثل رواندا التى سقط فيها ٨٠٠ ألف قتيل نتيجة الاقتتال بين قبيلتى الهوتو والتوتسى. وأشار دكتور عماد إلى أن مجتمع التسامح هو التعايش بين جميع المواطنين على أساس: للجميع نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.

وفى جلسة خاصة بالتراث الثقافى ودوره فى مواجهة خطاب الكراهية وصناعة التسامح «والتى أقامها منتدى حوار الثقافات بالهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية» تحدث كل من الدكتور أحمد مجاهد، رئيس قسم الدراما والنقد بكلية الآداب جامعة عين شمس، والدكتور رامى عطا، الأستاذ المساعد ورئيس قسم الصحافة بأكاديمية الشروق، عن أهمية التراث بشقيه المادى «الآثار والمنشآت الدينية كالمعابد والمقابر والمساجد والكنائس والحصون والقلاع والقصور والأدوات التى استخدمها الأسلاف فى حياتهم اليومية»، والشق المعنوى الخاص بالتراث الشعبى وعادات الناس وتقاليدهم وأفكارهم ومشاعرهم ومعتقداتهم، والفلكلور الشعبى من حكايات شعبية وأشعار متغنى بها، والأمثال الشعبية والألغاز والمفاهيم الخرافية، والاحتفالات والأعياد الدينية. وأكدا أن للتراث أهمية كبرى لدوره فى تشكيل وتغذية الوجدان والوعى الجمعى، ومده بالقيم وتشكيل الوعى العام، كما أشارا إلى أنه فى ظل العولمة وثورة الاتصالات والتواصل الاجتماعى، أصبحنا بحاجة إلى الحفاظ على الهوية الثقافية والوطنية وفى حاجة إلى أن نأخذ من تراثنا النقاط المضيئة والمستنيرة ونبنى عليها لتطوير مجتمعاتنا.

إن الهوية الوطنية هى الخصائص والسمات للأشخاص التى تُنمِّى روح الانتماء لديهم ودونها تفقد الأمة استقرارها وهويتها، كما أن مكونات الهوية الوطنية هى كل شىء مشترك بين أفراد مجموعة محددة تساعد فى بناء المجتمع. ويقول الدكتور سامح فوزى فى أحد مقالاته بجريدة الأهرام «الدولة الوطنية لها عدة سمات منها العلم الواحد والنشيد الوطنى والحقوق المشتركة والواجبات المشتركة التى يتعين على المجموع الوطنى العمل معًا من أجل إنجازها، وتعتمد على ثقافة التسامح وتتبنى ثقافة السلام فى العلاقات الدولية ونبذ الحروب والسلام فى العلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد وتتبنى أيضًا مواجهة التمييز ضد المرأة».

إن التنمية والعمل المشترك بين أبناء الشعب الواحد تجعل للهوية الوطنية غاية ومعنى، كما تعتبر التنمية حاضنة للتنوع وإدارته، وتعمل على نشر ثقافة قبول الآخر والتسامح، فالتنمية تساعد على مشاركة المواطن فى العمل وفى بناء المجتمع، ويحتاج المجتمع إلى تجارب تنموية حقيقية داخل البيئات المحلية لتعزيز الهوية والتسامح والمواطنة.

وفى نهاية المقال نورد بعض التوصيات من أجل إرساء وترسيخ قيم الانتماء والمواطنة:

إنشاء مفوضية عدم التمييز وتشريع القوانين التى تُجرِّم التمييز مع تفعيلها وتنفيذها.

وضع مناهج تعليمية تعتمد على نشر ثقافة المواطنة وتنمية الانتماء وإطلاق القدرات والمهارات والمواهب والاهتمام بالأنشطة الثقافية والفنية والرياضية والاهتمام بتنقية المناهج من المواد التى تحض على التطرف والتعصب، واعتماد مناهج تقوم على استخدام المنهج العلمى فى التفكير، لا تقوم على الحفظ والتلقين والسمع والطاعة.

بث التوعية ونشر ثقافة التنوير عن طريق الندوات والمؤتمرات الأدبية والثقافية والفنية فى المدارس والجامعات ومراكز الشباب، ومراكز الهيئة العامة للاستعلامات، وقصور الثقافة.

اضطلاع الإعلام «المسموع والمرئى والمقروء» بدوره فى بث ثقافة تنويرية ومواجهة التخلف والتطرف.

التوعية الدينية التى نصل منها إلى الأرضية المشتركة بين الأديان.. تحقيق العدالة الاجتماعية وإعلاء دولة القانون.