جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

قراءة جديدة فى كتاب قديم

مذكرات روز اليوسف.. امرأة ضد الأغلبية

- لم تخش روز اليوسف أغلبية الوفد ولا جماهيريته العريضة ولا قداسة زعيميه مكرم عبيد ومصطفى النحاس، ووصل الصدام إلى الذروة

- روز اليوسف امرأة من نسيج خاص، تحدت تقاليد المجتمع البالية وتألقت كنجمة مسرحية كبيرة، وتمردت على استبداد يوسف وهبى

عندما تمشى فى شارع قصر العينى عند تقاطعه مع المبتديان تجد صرحًا صحفيًا ثقافيًا أنيق الطابع، يحمل لافتة «مؤسسة روزاليوسف»، لا بد أن تتذكر أن هذه العظمة كلها يعود الفضل فيها إلى تلك السيدة العظيمة «فاطمة اليوسف» المعروفة بروز اليوسف، فهى مؤسسة الدار، وصاحبتها، والتى قدمت منها مئات من النجوم اللامعة فى سماء الصحافة والأدب والفن فى بلادنا العزيزة، كلها خرجت من عباءة روزاليوسف، فى الصحافة أحمد بهاء الدين وصلاح حافظ ولويس جريس ومحمود السعدنى وجاهين وحجازى ومصطفى محمود وغيرهم وعشرات من الكتاب العظام، بدأت روز اليوسف تأسيس مجدها العظيم فى حجرتين بشارع جلال المتفرع من عماد الدين، اقتطعتهما- لضيق ذات اليد- من مسكنها، فى عمارة مملوكة لأمير الشعراء أحمد شوقى، ولم يكن فى نيتها أن تُنشئ مجلة سياسية، فكان الغرض من إنشائها هو تأسيس مجلة فنية تعنى بالنقد الجاد الهادف للحركة المسرحية، فلم يكن فى الساحة سوى المسرح الذى كان مزدهرًا آنذاك، لا سينما ولا إذاعة، وكانت روز اليوسف، وهو الاسم الفنى الذى اختارته فاطمة اليوسف لمجلتها الناشئة، قبل تأسيس المجلة بقليل نجمة مسرحية لامعة، فهى بطلة فرقة يوسف بك وهبى المسرحية، وقبلها كانت البطلة فى فرقة عزيز عيد. وعندما عنت لفاطمة اليوسف فكرة إصدار المجلة وكانت خرجت من فرقة رمسيس، غادرت الفرقة وسافرت إلى باريس احتجاجًا على استبداد يوسف وهبى برأيه وإبعادها، فعز عليها وهى نجمة الفرقة الأولى وصاحبة مجدها إصرار يوسف وهبى أن ينحيها عن بطولة غادة الكاميليا، ويسلم الدور الذى أجادت فيه روز اليوسف- لدرجة أنهم أطلقوا عليها «سارة برنار الشرق»- وقرر أن تحل ناشئة محلها، وتذكر روز اليوسف فى مذكراتها الجميلة التى صدرت فى ١٩٥٧ فى جزءين، الجزء الأول يبدأ بها طفلة فقيرة مهاجرة من الشام لم تتلق التعليم ولا الرعاية، تسكن فى مسكن بائس بالقرب من مسرح كبير، فتجذبها عوالم المسرح السحرية الزاهية، الأضواء والملابس والماكياج والديكورات والممثلين وصخبهم، فتقضى الليالى تتطلع إلى هذا العالم السحرى، ليلة بعد ليلة حتى يقترب منها رجل قصير القامة ضئيل الحجم لطيف الطبع ويحنو عليها، ويجعلها تقترب من المسرح، ويبدأ فى تعليمها وتدريبها وتلقينها أسس صنعة التمثيل، ولم تضيع الفتاة الذكية الفرصة هباءً فقد أمسكت بها وعضت عليها بالنواجذ واستغلت ذكاءها الحاد وطبيعتها الاستقلالية وإيمان أستاذها عزيز عيد بها، وتسلقت إلى القمة وصارت الممثلة الأولى فى الفرقة. وتتحدث روز اليوسف عن سنوات البؤس والأضواء وهم يكابدون من أجل تقديم فن راقٍ يرضى عنه أبوهم الروحى ومعلمهم ومخرجهم عزيز عيد، عن جوعهم وتشردهم إخلاصًا لحب المسرح والتفانى فيه.

كان يوسف وهبى قد سافر إلى إيطاليا وتعددت الروايات عن سبب سفره، فيوسف بك يكتب فى مذكراته «عشت ألف عام» أنه سافر ليدرس المسرح فى إيطاليا، وهناك من يروج أن يوسف بك سافر هربًا من راقصة مالطية تدعى كاليوبى حملت منه سفاحًا، المهم أن يوسف وهبى سافر إلى إيطاليا هربًا من شقيق فتاة مالطية تدعى كاليوبى كان يوسف على علاقة بها وواقع فى غرامها. وبعد سنوات توفى والده عبدالله بك وهبى، تاركًا ليوسف ثروة كبيرة، فسافر عزيز عيد إلى إيطاليا، ليقنعه باستغلال ميراثه الكبير فى تحقيق أحلامهم بعمل نهضة مسرحية، وأقنع عزيز، يوسف وهبى بالعودة فعاد يوسف بك واشترى مسرحًا فى مكان مسرح الريحانى الآن، وحوّله إلى مسرح عصرى على الطراز الأوروبى فى البانورات والخشبة والكواليس والانضباط والالتزام، واحتلت فرقة رمسيس مكانة رفيعة عند الجمهور، وبرزت روز اليوسف كبطلة للفرقة، وبعد ثلاث سنوات تقريبًا انفض الجمهور عن رمسيس وعن مسرحه، وتنتهز روز اليوسف فى مذكراتها الفرصة فتشن على يوسف وهبى هجومًا حادًا لاذعًا وبلا هوادة، وفى تقديرى أنها قررت عمل مجلة أسبوعية فنية، لا لشىء إلا لكى تنتقم فيها من يوسف وهبى، الذى كان- كما ذكرت- لا يحتمل أن ينال منه النقد، فكان يوسف وهبى يستأجر بلطجية- والعهدة على روز اليوسف- ليضربوا الناقد الذى يهاجم يوسف بك.

ويوسف وهبى، كما ذكرت فى كتابها، لا يجيد التمثيل، فيلجأ إلى البكش والتهويش بطريقته المعروفة، وأنه كان يهذى بكلمات من عندياته بعيدة عن النص ويدمغها بطريقته فلا يفهم الجمهور ماذا يقول، وفى مسرحية غادة الكاميليا لعب يوسف وهبى دور أرمان، وهو دور العاشق الذى يهمس بكلمات الحب الرقيقة، فكان الدور لا يعجب يوسف وهبى، ويصفه بأنه دور «رقيع»، لأن دور أرمان بعيد عن أداء يوسف وهبى العاصف بالانفعالات الجامحة والزئير والصراخ، كان موظف الكواليس يدعى زغلول، فكان يوسف بك يتهكم على الدور فيقول «زغزغنى يا زغلول علشان أمثل الدور»، وتورد روز اليوسف فى مذكراتها نماذج من الهجوم العنيف الذى كتبه النقاد آنذاك يوضحون ضعف يوسف وهبى فى التمثيل وعيوبه الصارخة. وعلى المستوى الشخصى والسلوكيات، هاجمت روز اليوسف سلوكيات يوسف وهبى هجومًا عنيفًا، فهو بخيل للغاية، وكان يركب سيارته الفارهة بعد انتهاء العرض ويتركهم ليتدبروا تكاليف العشاء من الفول والطعمية، وتكتب روز اليوسف أن يوسف وهبى كاذب ويدّعى أنه خسر أمواله فى المسرح، والمسرح كامل العدد، ولم يكن يمنحهم إلا مرتبات هزيلة، يتركهم ليصيف فى أوروبا، ويتركهم فى القاهرة بلا مرتبات، وفى فترة البروفات لا يمنحهم سوى نصف راتب، وإذا كانت المسرحية عصرية فعلى الممثلين شراء ثياب العرض المسرحى، ولو كانت المسرحية تاريخية فالثياب من المسرح، ولم تكن روز اليوسف الوحيدة التى هاجمت يوسف وهبى فى مذكراتها، لقد اتهم فتوح نشاطى- الذى عمل فى فرقة رمسيس- يوسف بك بالبخل والديكتاتورية، بل إنه اتهم يوسف بأنه كان يكلفه بترجمة مسرحيات من الفرنسية، فإذا ما انتهى نشاطى من الترجمة سيضع يوسف وهبى اسمه عليها باعتباره مؤلفها، وأسست روز اليوسف مجلتها فى أكتوبر عام ٢٦، وكانت أول امرأة تصدر مجلة، وسنقول إن العقاد قال: «لست مستعدًا لأن أكتب فى مجلة تحمل اسم امرأة»، وكان أجره فى جريدة البلاغ سبعين جنيهًا، ولكنها عندما رفعت أجره من سبعين جنيهًا إلى ثمانين جنيهًا قَبِل بالعمل! وبرر تراجعه بأنه كان يقصد أنه لن يكتب فى مجلة تحمل اسم صاحبها، بغض النظر رجلًا كان أم امرأة، وبالمناسبة انتبهت- بعد الانتهاء من قراءة المذكرات- أن فاطمة اليوسف تلك المرأة العظيمة تزوجت ثلاث زيجات، ولم تذكر اسمًا واحدًا مهمًا طيلة المذكرات، وستذكر فى مذكراتها كفاحها الشاق العظيم وصلابتها الشديدة وتحملها الظروف القاسية لكى تكمل المسيرة، وبدأ معها محمد التابعى ومحمد رمزى والمازنى ومحمد صلاح الذى سيصبح وزير خارجية مصر، ولم يتقبل الناس أن «امرأة» تصدر وترأس تحرير مجلة، ولكنها أصرت، وشجعتها أم كلثوم وهدى شعراوى وأم المصريين ولفيف من المصريين المستنيرين، ونجحت المجلة نجاحًا نسبيًا، وكان لا بد من تطويرها لكى تستطيع البقاء والمنافسة، فكان الدخول إلى السياسة، وبدأت وفدية الهوى، وشملها النحاس بعطفه ورعايته، وصودرت المجلة مرات عديدة لخطها الوطنى ووقوفها مع الحرية والشعب، وفى عام ٢٨ شنت المجلة حملة عنيفة ضد وزارة توفيق نسيم الوفدية الهوى التى تعطل عودة دستور ٢٣ الذى لغاه جلاد الشعب إسماعيل صدقى بعد ثورة عنيفة من الشعب، وسقط صدقى وجاءت وزارة توفيق نسيم، وكانت على هوى النحاس، وعطلت وزارة نسيم عودة الدستور استجابة للوفد وللسراى والإنجليز، وامتشقت روزاليوسف المجلة والجريدة السلاح، وهاجمت توفيق نسيم وتلكؤه المريب وكان هجومها حادًا لاذعًا، ولم يسكت الوفد وبدأت كوكب الشرق والبلاغ الهجوم على روز اليوسف، وردت روزا على الهجوم بعنف، وتصاعدت الحملات المتبادلة بين الجرائد الوفدية وبين روزاليوسف، ولم تخش روز اليوسف أغلبية الوفد ولا جماهيريته العريضة ولا قداسة زعيميه مكرم عبيد ومصطفى النحاس، ووصل الصدام إلى الذروة، وقطع الوفد إجازة الصيف وعادت قيادة الوفد إلى القاهرة واجتمعت ثلاث ساعات فى بيت الأمة، وأصدر الوفد بيانًا يعلن فيه قراره «فصل روز اليوسف من الحزب»، وقامت المظاهرات الوفدية الحاشدة التى تهتف ضد روزاليوسف فى القاهرة ودمنهور والإسكندرية والمنصورة وطنطا، ونشبت معركة رهيبة بين مكرم عبيد الزعيم الوفدى وبين العقاد، تبادلا فيها أقذع الشتائم والاتهامات، مكرم يقول إن العقاد «مغرور لئيم وخائن أثيم»، والعقاد يصف مكرم بأنه «الدجال الدساس»، وحاصر المتظاهرون الوفديون الجريدة وضربوها بالحجارة، وصمدت روز اليوسف وظلت تطالب بعودة دستور ٢٣، وتطالب بإسقاط حكومة توفيق نسيم، حتى صرح صمويل هور وزير الخارجية البريطانية فى مجلس العموم بأن «لا عودة لدستور ٢٣ فى مصر فقد ثبت عدم صلاحيته للتطبيق»، لتندلع ثورة الجماهير الوفدية هذه المرة، فى مظاهرات عنيفة وتقع صدامات مع الإنجليز والشرطة وتراق الدماق وتزهق الأرواح، فتتم إقالة حكومة نسيم وتشكيل حكومة ائتلافية تعيد دستور ٢٣ وتعيد للأمة كرامتها.

روز اليوسف امرأة من نسيج خاص، تحدت تقاليد المجتمع البالية وتألقت كنجمة مسرحية كبيرة، وتمردت على استبداد يوسف وهبى، وناصبت مكرم عبيد والنحاس العداء، لإحقاق الحق وتحقيق المثل العليا، ولم توقفها المظاهرات التى حاصرت الجريدة، وأرست مثلًا أعلى للمرأة العصرية الذكية الوطنية الطموحة الشجاعة، أتذكرها بكل الخير وأنا أسمع أحاديث التخلف عن الحجاب والنقاب والإسدال وكل رموز الظلام والرجعية، وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر.