جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

فن السياسة المبدعة فى إدارة العمل الثقافى

- فى بعض الأحيان ينتاب بعض المثقفين إدراك بأن مجتمعهم يخذلهم، وأن ثقافتهم عبء، وهو فرع استعلائى، ينظر إلى الجموع الغفيرة الفعلية والرقمية بدونية

- تراجع دور الشاعر والشعر فى حياتنا بعد أن كان ديوان العرب، إلى الرواية، ومنها إلى فيضان السرد وغالبه لا قيمة له فى ظل انهيار تقاليد النشر

 

إحدى أبرز علامات المسألة الثقافية المصرية هى حالة الفوضى التى تشمل الثقافة الشعبية، والثقافة العليا، والثقافة الرسمية، وتصور بعضهم أن التمايزات القديمة بين هذه الأنساق الثقافية المتعددة لا تزال حاسمة، وأن الثقافة العليا والنخبوية لا تزال متماسكة «ورفيعة»، وأن ثقافة الجماهير الغفيرة لا تؤثر إلا قليلًا على ثقافة النخبة وبعض الفئات الوسطى! إلا أن الواقع الموضوعى يشير إلى أن الثقافة الشعبية بات ثقلها غلابًا، وقدرتها على فرض بعض اختياراتها- لا سيما فى الموسيقى والغناء، ونموذج البطولة، والتصور الشعبى لها فى السينما والدراما التلفازية، وأساطيرها المتخيلة، وبعض من نمط تدينها الشعبى الوضعى حول الدين والمقدس وسردياته التاريخية الوضعية- وذلك على الفئات الثرية ومفرطة الثراء! ثمة استثناءات لدى بعض هذه الشرائح. لم يعد الذوق الفنى وأنماط التذوق الجمالى والموسيقى والتعليم الخاص والأجنبى يؤسس لذائقتك الرفيعة كما كان فى الماضى! وإنما نحن إزاء سطوة ونفاذ لثقافة الجماهير الرقمية العريضة على جميع فئات المجتمع وشرائحه الاجتماعية فى الغالب الأعم، ومن ثم تؤثر حالة الفوضى الثقافية والسيولة من أسفل إلى أعلى. 

أحد مكونات الفوضى منذ المراحل الانتقالية الماضية بعد يناير ٢٠١١ عدم استقرار وفوضى الأجهزة الثقافية الرسمية، وعدم قدرتها على التأثير على قيم وسلوكيات الجماهير الغفيرة، وظل إنتاجها الثقافى المحدود أسير تصورات باتت قديمة وموروثة وبعيدة عن تحولات الواقع الموضوعى ولشرائح محدودة من بقايا الفئات الوسطى المأزومة! ومرجع ذلك إلى تركيزها على بعض من مكونات الثقافة العليا- فى الموسيقى والمسرح والفنون التشكيلية والموروث الغنائى والجديد وفوضى سياسة نشر الكتب... إلخ- وأيضًا الإصرار على أن قيادة وإدارة العمل الثقافى الرسمى من عصرى السادات ومبارك وإلى الآن يرتكز التجنيد لهذه المواقع على شخصيات من أساتذة الجامعات، وذلك تحت تصور أنهم الأقدر على قيادة وإدارة الأجهزة الثقافية الرسمية، وغالب هؤلاء من كليات الآداب- أحدهم فى عهد السادات من دار العلوم.

هذا التصور مرجعه أن الثقافة تدرك سياسيًا لدى الطبقة السياسية المصرية بأنها الأدب العربى، أو بعض اللغات الأجنبية أو علم الاجتماع، أو بعض الفنون الأخرى. هذا الإدراك السياسى يعنى مفهومًا ضيقًا للثقافة، موروثًا ومستمرًا من المرحلة الساداتية، وذلك على الرغم من وراثة مفهوم الثقافة الشعبية والجماهيرية من العصر الناصرى، على الرغم من هامشية هذا المكون من أجهزة الدولة دورًا ونشاطًا فى الأقاليم الثقافية! ويعود هذا التصور لقيادة وإدارة الثقافة ومؤسساتها الرسمية بعيدًا عن السياسة، وأنها هامش محدود التأثير فى العمليات السياسية، وأن صنع وإدارة السياسات الثقافية مسألة فنية، وهو أمر غير صحيح لأن قيادة الثقافة تحتاج إلى عقل سياسى مثقف، ووثاب معًا ويمتلك من ملكة الخيال السياسى الكثير، من ثم الثقافة العليا، وقيادة العمل الثقافى أخطر من أن تعطى لأساتذة كليات الآداب، وأكاديمية الفنون، بل والمثقفين عمومًا، مثل الاقتصاد أخطر من أن يعطى للاقتصاديين، قد يبدو هذا صادمًا لهؤلاء، والعقل العام للجموع الغفيرة، وقد يقال إن هناك مثقفين كبارًا أداروا الثقافة فى فرنسا، مثل أندريه مارلو فى عهد ديجول، وجاك لانج فى عهد ميتران، هذه لحظات تبدو استثنائية، لكن هذا المثال يتجاهل أمرًا أساسيًا أن مارلو، وجاك لانج مارسا السياسة مع الثقافة، من هنا كانت إجادتهما فى التخطيط، والعمل والخيال الثقافى الوثاب، وفى الأنشطة الثقافية، والأهم فى مجتمع تسوده حرية الإبداع، والبحث والمغامرة الفكرية، والفلسفية، ومدارس السينما، وتطور الموسيقى بأنماطها المختلفة، والفن التشكيلى، والنحت، والفنون كافة، والأهم مجتمع التعدد الفلسفى والفكرى، والفنى، وحيث الثقافة العليا، والثقافة الشعبية، والثقافة بالمعنى العام، الطقوس، والعادات والقيم، وأنماط الحياة، وأساطيرها اليومية، وأنظمة الزى، والأكل، والشراب، تبدو غالبة، وموحدة فى الغالب الأعم، وحيث التمايز بين الوضعى والميتاوضعى، وبين السياسى والدينى، من هنا تبدو الثقافة غالبة فى كل مكان، من التراث المادى واللامادى، والطرز المعمارية، وإبداعاتها وبيوت الأزياء العالمية، وكبار المصممين الذين وصفهم ميتران ذات مرة «إنكم تكونون العالم»، الثقافة بكل أنماطها حاضرة فى تفاصيل الحياة اليومية، قرينة الحرية، والجمال، والتنوع وحركية الإبداع فى إعادة تجديد الحياة لكل الفرنسيين، من هنا يبدو الاستناد إلى أمثال أندريه مالرو، وجاك لانج، فى إدارة الثقافة مثلًا غير سائغ.

فى تطور الأجهزة الثقافية المصرية فى المرحلة شبه الليبرالية قبل إنشاء وزارة الثقافة، لا توجد أمثلة مهمة لإدارة بعض المثقفين لأحد هذه الأجهزة- ومثالها توفيق الحكيم فى دار الكتب مثلًا- وبعد ١٩٥٢، كان فتحى رضوان وزيرًا للإرشاد القومى- مع النمط الذى شاع فى بعض الدول الاشتراكية- كان سياسيًا، ومع إنشاء وزارة الثقافة، كان ثروت عكاشة وزيرها، لكنه كان جزءًا من نظام التعبئة الأيديولوجية الناصرية رغم إنجازاته البارزة التى تعود إلى دعم الرئيس جمال عبدالناصر له، وإدراكه لأهمية الثقافة فى التغيير الاجتماعى، وفى بناء الوعى وإنماء الضمير الفردى! 

مع هزيمة يونيو ١٩٦٧ القاصمة، لم يستمر الطلب السياسى والاجتماعى بالثقافة عمومًا والرسمية خصوصًا!

إدارة العمل الثقافى الرسمى، والطوعى والجماهيرى تحتاج إلى مناخ، وفضاء مفتوح على التعدد والاختلاف، والحوار والتفاعل، وحرية الإبداع، والتمايز بين الإبداعى، والدينى، وبين الإبداعى والأخلاقى، ودونما وصاية دينية أو أخلاقية، أو سياسية، لأن الإبداع الفكرى والفنى أيًا كانت مستوياته هو عملية هدم، وبناء، وقطع، واستمرارية بعدها. الثقافة هى حركة شعب يبحث عن المعنى- وفق جاك بيرك- على كل المستويات، ومن أساطيره اليومية، وما ورائياته، ونظام الأكل والشراب والغناء والموسيقى، ونظام الزى وطقوس الاحتفالات، ونظرته لذاته وللآخرين، ورؤيته للعالم، مفهوم الثقافة متعدد المستويات ومخاتل، وربما يعد من أكثر المفاهيم مراوغة تاريخيًا، مثله مثل مفهوم المثقف الذى استهلك بكثافة، وسطحية، فى غير مواضعه فى مصر وعالمنا العربى، من هنا تفرض السياسة والدين والأخلاق- من منظورات السلطات القائمة الدينية، والأخلاقية، والسياسية- هيمنتها فى تحديد وضبط المسموح، والمشروع، واللامشروع فى المجال العام، وترفع سيف الرقابة والمحرمات فى مواجهة أشكال الإبداع المغايرة، لأنها تريد، وضع العقل النقدى والمبدع أسيرًا لمعتقلات الروح، وفى حالة من الخوف من عدم السيطرة، وتميل السلطات السياسية والأمنية العربية إلى مشايعة الجموع الغفيرة- الفعلية والرقمية- فى هيجانها إزاء ما تعتقده أنها قيم، وقواعد أخلاقية، ترى أنها ثابتة، وتشكل هوياتها وهى لا ثابتة، ولا تحترمها هذه الجموع الغفيرة الهائجة، وتنتهكها فى حياتها اليومية، السرية والمعلنة! ولأنها جماهير غفيرة- محدودة التعليم، أو أمية أيًا كانت أنماطها- لا تعرف أن القيم الاجتماعية والأخلاقية متغيرة، وأنها ليست المقدس أو الدين، لكن تحركها أوهامها، وأساطيرها المتخيلة بوصفها المقدس! ممالأة السلطات للجماهير الغفيرة وأهوائها، هو جزء من لعبة إعادة إنتاج التخلف، ضحيتها الإبداع والعقل النقدى الحر، الذى يحرك المجتمع وثقافته، ويحددها، إذا كانت هناك رؤية تدمج الثقافات داخل المجتمع، فى إطار التنمية فى الدول الفقيرة والمتوسطة.

من هنا ضرورة الرؤية السياسية المبدعة للسياسة الثقافية، والإدارة الثقافية، وفق الدرس العلمى الراهن، وخطورة قصر الثقافة، وإدارتها على البيروقراطية، والموظفين فى واقع متخلف، والأخطر أن يدير الثقافة عند قمة جهازها أساتذة متخصصون فى الأدب، أو الفنون فقط، لأن هؤلاء أيًا كانت قدراتهم ومستوياتهم فى التخصص أسرى تحيزات، واختيارات تحد من النظرات التجديدية، أو من غيرهم من كليات الآداب.الثقافة سياسة فى إدارة أجهزة الدولة الثقافية وتحتاج إلى عقل سياسى وثقافى وثاب، وخيال مبدع!

تزداد أهمية هذا البعد فى الاختيارات، بالنظر إلى النزعة الأصولية والماضوية فى كليات الآداب خلال العقود الماضية، مع ذلك هناك استثناءات مهمة، لدى بعض كبار الأساتذة، من ذوى العقول الكبيرة، والمنفتحة، وبعضهم لعب أدوارًا مهمة كنقاد كبار، أو بناة لمؤسسات الدولة الثقافية، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معهم، وبعضهم الآخر راكم خبرات متميزة، داخل أجهزة الوزارة، ويمتلك رؤية للعمل الثقافى، والتعامل مع بيروقراطيتها غير الكفؤة، وتحريكها!

من هنا لا بد أن تكون الرؤية، والسياسة الثقافية، ذات طابع سياسى وقانونى معًا، تتمتع بالحرية والتعدد والاختلاف، وحماية العقل المبدع والنقدى من عنف الخطاب الدينى والجماهيرى الذى تحركه أوهامه، ودوافعه المضطربة بالتعصب والازدواجية والتناقض.

من ناحية أخرى لا يمكن إيجاد تصورات لسياسة ثقافية تجديدية، بنظرات ورؤى مختلفة، بعيدًا عن الإقليم العربى، وثقافات العالم، وتحولاتها عن معرفة جادة وعميقة، وذلك لرفد ثقافة التخلف بمصادر للتجديد الثقافى تدفع التنمية والتطور الاجتماعى والسياسى قدمًا إلى الأمام، الثقافة تشكل قاطرة للتنمية فى مجتمع متخلف فى تطويرها للوعى الاجتماعى والسياسى وبعث قيمة العمل والمسئولية، من ثم لا يحتاج تشخيص أوضاع تخلفها إلى المبالغات، والمزايدات السياسية، طالما كان رائد أى مقاربة جادة هو المساعدة من الخروج من سياجات التخلف الثقافى لا الخيارى، فى لحظة فارقة، وأمام مفترق طرق فى عالم متحرك.

يشكل الإيمان بدور الثقافة قيمة سياسية كبرى، وذلك كمحرك للوعى وإرهافه وإنماء حساسيته، وإدراكه للمشاكل الكبرى، والصغرى، والجماعية، وعلى المستوى الفردى والأهم، أن إدراك السياسى للثقافة على هذا النحو من الأهمية بمكان فى الفكر والعمل السياسى، لأنها ستلعب دورًا وظيفيًا فى تقويض التخلف وتطوير التعليم وإنماء الانتماء الوطنى، والإنسانوى عمومًا، وتكرس قيمة المواطنة، والتكامل الوطنى فى إطار التعدد والاختلاف، وتسهم فى عدم الانسياق وراء الفكر الغوغائى والأسطورى وتحجم ثقافة التفاهة، والسطحية، وتواجه المقولات الماضوية، والتراثية، بوصفها جزءًا من أسئلة، الماضى وبشره، ومشاكله، وأنماط تفكيره التى تجاوزها الزمن وتتعامل معها بروح وتفكير، وإدراك مختلف.

الثقافة- بكل أنماطها وأشكالها ومستوياتها- مع الحرية لا تشكل خطرًا على الاستقرار فى ظل دولة القانون العادل، بل تشكلان محركين للحيوية، الجماعية، وللعمل والإنتاج والمسئولية الفردية، تجاه العمل أيًا كان والمسئولية الجماعية، وتحويل العمل إلى قيمة فى ذاته.

فى بعض الأحيان ينتاب بعض المثقفين إدراك بأن مجتمعهم يخذلهم، وأن ثقافتهم عبء، وهو فرع استعلائى، ينظر إلى الجموع الغفيرة الفعلية والرقمية بدونية، وهو ما يشكل عائقًا إزاء البحث فى ثقافة الجموع الغفيرة، وما الذى يهيمن على وعيها وإدراكها، ويوجهها فى حياتها! هذه النظرة الاستعلائية خطرة، وشكلت عائقًا إزاء تشكل المثقف التاريخى والنهضوى، ومن ثم ظل تأثيرهم محدود الأثر، وفى دوائر بعضهم، ولم يتعد ذلك إلا قليلاً!

ثمة نظرة يساروية شاعت مع الجماعات اليسارية، والناصرية والعروبية، تمجد الشعب وثقافته، هكذا ورفعته كشعار، وربط تصوراتها وشعاراتها باسم الشعب لا سيما فئاته الاجتماعية الفقيرة والبسيطة، من العمال والفلاحين! وهى نزعة مفارقة للواقع الموضوعى لثقافة الفقراء وحياتهم، ورؤاهم- دونما بحث سوسيو- ثقافى، وسوسيو- دينى، حيث تسيطر ثقافة الخرافات والحتميات الماورائية، والقدرية على جموعهم الغفيرة، وأنماط التدين الشعبى الوضعى المخلوطة بالخرافات والأساطير البعيدة، عن المقدس الإسلامى والمسيحى، من هنا سيطر رجال الدين- أيًا كانوا- على وعى هذه الجموع الغفيرة، لا سيما فى الأرياف والمدن الريفية. من ناحية أخرى شكلت اللغة الأيديولوجية، السياسية، والاقتصادية والفلسفية، فى خطابات الجماعات اليسارية المحجوبة عن الشرعية القانونية والسياسية، عائقًا حال دون وصول هذه الخطابات إلى هذه الجموع الغفيرة. انفصال بين لغة وخطاب اليسار، والناصريين، عن لغة وإدراك وفهم الجموع الشعبية، الغفيرة والفقيرة، من هنا ازداد الانفصال بين خطابهم التمجيدى وواقع ثقافة الغالبية الشعبية، من المصريين، انفصال ثالث بين الثقافة الرسمية فى المركز/ العاصمة ونشاطاتها، وبين ثقافة الشعب فى الهوامش، فى ظل سطوة المركز، واهتماماته، وأنشطته حول السلطة، لا سيما فى عهدى السادات ومبارك وإلى الآن. ثقافة المركز استعراضية، وهدفها نيل ثناء النظام، وتميل إلى تمثيل دور الثقافة الآمنة التى لا تهدد النظام، وإنما تدعم صورته العريقة، ويروج صناعها إلى أنها هى القوة الثقافية الأساسية عربيًا، بينما الواقع مختلف تمامًا! من هنا تعيد إنتاج ذاتها بلا تطور فى الرؤى أو الإنتاج الثقافى وظلت راكدة بلا تقييد حقيقى داخل مجتمعها، ولا فى إقليمها، ولا تعرف عالمها! من الشيق ملاحظة أن الأنشطة الثقافية الرسمية ظلت غير مؤثرة فى ثقافات الجموع الغفيرة التى ظلت لها اكتشافاتها فى الموسيقى والغناء الشعبى، ومطربى المهرجانات والأفراح الشعبية.. إلخ، وفرضت هؤلاء على ثقافة الأثرياء والفئات الوسطى على نحو ما يشاهد سنويًا فى الساحل الشمالى، وأثريائه مفرطى الثراء، والاستهلاك! ومن الملاحظ أيضًا أن فرض ثقافة الهامش التاريخى للجموع الشعبية الغفيرة نمط غنائها، وأبطالها فى السينما، على ما يطلق عليهم مجازًا بالنخبة والطبقة الثرية مفرطة الثراء، يعكس فشلًا ذريعًا للثقافة التى تروج لها أجهزة الدولة الثقافية الرسمية! ويلاحظ أيضًا أن موسيقى وغناء المهرجانات والجموع الشعبية الغفيرة تكشف عن التناقضات والازدواجيات بين الأقنعة الدينية الوضعية وطقوسها السائدة، وبين هذا النمط من الغناء والموسيقى والأبطال، الذى يظهرون فى السينما وفى بعض مسلسلات الدراما المتلفزة، حيث البطل البلطجى، الذى يخرق القانون ويتناول المواد المخدرة، ويتاجر فى الممنوعات، ويقتل ما شاءت له مصالحه، ويضرب، ويتعامل مع النساء فى عنف وفحش، ما يناقض صورة الجموع المؤمنة التى تعلى من شأن الدين على غيره فى تفاصيل الحياة والقيم! ناهيك عن تفسخ الأنسجة القيمية، والاجتماعية، ووهن الأنظمة الاجتماعية التقليدية، ومنها نظام الأسرة والارتفاع الكبير فى معدلات الطلاق!

الثقافة الرسمية وثقافات الجموع الغفيرة الشعبية يتم مقاربتهما من خلال نظرات نمطية وسكونية مفارقة لواقع كليهما، ودونما دراسات حقلية، بينما واحدة رسمية نائمة وأخرى شعبية تتحرك بعيدًا عنها، وتفرض ذاتها عليها!

لا يملك خطاب المثقفين، وبيروقراطية الدولة الثقافية إلا خطاب الشكايا، والمطالب، دونما تجديد من عصر أحمد عدوية إلى عصر حمو بيكا!

حركية ثقافية الجموع الغفيرة، ترجع إلى انفصال الثقافة الرسمية وأجهزتها التى تدور حول التمثيل والاستعراض والموالين ممن يطلقون على أنفسهم مصطلح مثقفين، وهو ما يلا ينطبق إلا على قلة فى مصر المحروسة، وعالمها العربى، أو ممن ينشرون لدى الدولة الكتب والروايات والقصص، ودواوين الشعر، والمسرح، والكتب النقدية التى لا تأثير كبير لها على ثقافة الناس المنفصلة عن ثقافة مؤسسات الدولة الثقافية الرسمية، والتعليمية. تبدو قوة ثقافة الجموع الشعبية فى ضعف الثقافة الرسمية وخضوعها لنظرات منفصلة عن ثقافة الجموع الغفيرة، خذ على سبيل المثال، تحاول السلطات الرسمية للدولة رفع معدلات ونسب السياح فى مصر، مقارنة بدول عربية أخرى، أو بتركيا، ومع ذلك لا تنجح مثل هذه المحاولات أو المشاريع لأن عقلية وثقافة البيروقراطية تقليدية، ولا تزال تتصور أن السياحة الراهنة فى عالمنا ثقافية أساسًا وتدور حول الآثار التاريخية، بينما السوق الكونية للسياحة تعتمد على السياحة الترفيهية، وعلى سياحة المواطن العادى، لكن ما يعوق ذلك لدينا ثقافة الوعى المنحط للجموع الغفيرة، التى ترى العمل السياحى الخدمى بوصفه عملًا دونيًا، وخدميًا للأجنبى! وهو ما يعنى أن قيمة العمل فى ذاته غائبة! وترى السائح بوصفه فرصة للتربح السريع، من خلال النصب عليه، ورفع أسعار سيارات الأجرة، وفى المناطق الأثرية، والخدمية، ناهيك عن التحرش بالسيدات، وتبدأ محاولات الارتزاق من بعض العاملين فى المطارات ومن سائقى التاكسى، إلى آخر هذه السلسلة التى تعكس ثقافة الكسب السريع دون عمل، وأن السائح محض فرصة للحصول منه على أى شىء! دون إدراك أن احترام السائح سيؤدى إلى نهضة سياحية، ودعم للاقتصاد القومى، هذه ثقافة سائدة، وجزء منها بعض العاملين فى المجال السياحى، وهو ما يشير إلى قوة وفاعلية ثقافة الجموع فى أبعادها السلبية، والمنحطة، إزاء ثقافة بعض أجهزة الدولة الرسمية «ثقافة الدولة البيروقراطية توجه لثقافة الجموع الغفيرة، فى وجهها السلبى والخطر!»، وهو ما يعنى أن موظفى الدولة، والقطاع الخاص، والجماهير الغفيرة واحدة، ومن ثم ضعف ثقافة الدولة لدى البيروقراطية التى تشكلت من عصرى السادات ومبارك إلى الآن، قد يبدو أن هذا المثال بعيد عن الثقافة وفق المعنى الشائع والضيق لها، لكنه يشير إلى عدم تأثير الثقافة العليا، وثقافة النخبة عن ثقافة الجموع الغفيرة، وكيف أن هذا الانفصال يبدو واضحًا فى الثقافة المصرية، لكنه يبدو غائبًا فى ثقافات دول أخرى عربية كتونس والمغرب ولبنان وفى الإقليم كتركيا، وبالقطع يبدو غائبًا مثل هذا الانفصال فى بلاد مثل فرنسا، وإسبانيا، على سبيل المثال مع استثناءات محدودة، حيث الهوة بين ثقافة المواطنين، وثقافة النخبة ليست واسعة!

قد يبدو لبعضهم فى الطبقة السياسية، أو ما يطلق عليهم مجازًا بالنخبة المثقفة، أن هذا جزء من «حقائق» الحياة فى المجتمع المصرى، وتراكماته التاريخية، ومشكلة الوعى والتعليم، لكن إمعان النظر فى مثل هذه المقولات العامة والرائجة والكسولة أنها تعبير عن الاستكانة وعدم الرغبة فى العمل الجاد، والمخطط لإحداث التغيير الثقافى والاجتماعى المطلوب لتجسير الفجوات بين الثقافة الرسمية وأجهزتها واهتماماتها وبين ثقافة الجموع وتغييرها إلى الأفضل والإيجابى والعصرى. 

ثمة ظاهرة شائعة منذ عقود عديدة، تتمثل فى اللامبالاة بالمعرفة لدى النخب السياسية والثقافية وبروز ظاهرة المديوكر والمنيوكر- ما دون الحد الأدنى فى المعرفة والتخصص والأداء الوظيفى- فى مواقع قيادية فى أجهزة الدولة المختلفة، وهى ظاهرة تبدو كونية فى الطبقات السياسية فى الدول الأكثر تطورًا وغيرها من دول العالم المتوسطة والفقيرة، وهى ليست قصرًا على السياسة، وتبدو فى أجهزة الإعلام وكتاب وغيرهم. هذا النمط بات يمثل مثالًا يحتذى فى الشهرة والذيوع والثروة، والمكانة والاستعراض وهى ظاهرة اتسع نطاقها وباتت ملهمة لأجيال، وباتت علامة على التغير فى قيمة المعرفة والتخصص والتكوين الثقافى للنخب، ومن ثم باتت قريبة من ظاهرة مصرية شائعة فى ثقافة المصريين هى النزعة للإفتاء فى كل شىء سواء عرف الشخص عن الموضوع الذى يفتى فيه أو لا يعرف و«المديوكر» و«المنيوكر» النخبوى استصحب معه ثقافة الجموع الغفيرة من الإفتاء فى كل شىء، وتقديم فتاويه وكأنها تعبير عن العلم والمعرفة والخبرة! الميل إلى الفتاوى فى كل شىء بات جزءًا من ثقافة «التريندات» الرقمية من مغنيات ومغنيين وممثلين وممثلات، ولاعبى كرة القدم، وأفراد عاديين، وهو أقرب إلى طفح لثقافة الفتاوى من أسفل لأعلى، ومن الثرثرة، واللغو بين الجموع الغفيرة، إلى إشاعة التفاهة والجهل العام، رقميًا! ويوزع ذلك اللغو، والثرثرة السخيفة، غالب الصحف الورقية، على مواقعها الرقمية وعلى وسائل التواصل الاجتماعى، ومعها بعض المواقع الإعلامية، والمنصات الرقمية، التى تخصصت فى ثرثرة تفاهة الفنانين!

إن قوة ثقافة الجموع وشيوعها وتجاوزها للأجهزة الثقافية الرسمية، هى حالة الفوضى، وثقافة الفوضى من أسفل كنتاج لشيوع الإحساس بالتهميش الاجتماعى لدى بعضهم وفرضهم لاهتماماتهم وأذواقهم فى كل شىء فى الواقع الرقمى والفعلى معًا!

لا شك أن هذه التغيرات فى ثقافة الجموع الغفيرة الرقمية والفعلية، ومعها شيوع أدوار الدعاة السلفيين وغيرهم، وبروز داعية حقوق الإنسان، هذا المنطق الدعوى يرمى إلى الهداية والتبشير الدينى، والحقوقى، من خلال الخطاب البسيط الموجه للجموع الغفيرة، شاع قبل وبعد ٢٥ يناير ٢٠١١ و٣٠ يونيو ٢٠١٣، توارى الخطاب الدعوى الحقوقى إلى الخطاب النسوى الجديد الهجومى، الذى يقدم خطابًا مفارقًا للثقافة الذكورية السائدة، وخاصة لدى الجموع الشعبية الغفيرة، وعلى نحو دعوى واستعراضى، من بعضهم لاعتبارات التمويل الخارجى، والبحث عن الذيوع والشهرة، من خلال لغة التريندات الصادمة والزاعقة، ومن الشيق ملاحظة ميل بعض رجال الدين، ومواقع رقمية تابعة للمؤسسة إلى الموقف الدفاعى، من خلال ذات لغة «التريندات»، لكنها ردود أفعال غير مؤثرة.

من ثم كانت ظاهرة صمت المثقف هى انعكاس لتراجع دوره فى المجال الثقافى والاجتماعى والسياسى، وعدم قدرته على أداء أدواره القديمة، ولإعاقة هذه الأدوار من سلطة رجال الدين، والسلطة السياسية والدعاة الحقوقيين، والنسويين، والجندريين، عمومًا نحن منذ عقود عديدة فى عصر نهاية المثقف بالمعنى والسياقات والتحولات والأدوار التى نهض بها منذ قضية دريفوس فى فرنسا وأوروبا، وفى مصر وعالمنا العربى منذ النهضة العربية وحركة التحرر الوطنى!

تراجع دور الشاعر والشعر فى حياتنا، بعد أن كان ديوان العرب، إلى الرواية، ومنها إلى فيضان السرد، وغالبه لا قيمة له فى ظل انهيار تقاليد النشر، ودورها الخاصة، التى ينشر غالبها بأجر- والعامة، وتراجع القراءة وجماعات القراء، وبروز عصب نوادى القراءة وشلل أدبية، ومعها نقادها! يعتمدون على الإلحاح والحضور المكثف فى كل الندوات والمناقشات كشلل متعاضدة تروج لبعضها بعضًا! فى الماضى كانت الشلل الثقافية مؤدلجة وشخصية معًا وحزبية من بعض جماعات اليسار الماركسى ثم توارت وأصبحت شللًا تروج لبعضها بعضًا بغض النظر عن مستوى الأعمال السردية التى يتم الترويج لها. وانتشرت بعض عمليات استعارة واستلهام أعمال أجنبية ومسلسلات درامية تلفازية.. إلخ!

على الرغم من هذه الظواهر السلبية الخطيرة إلا أن ثمة مواهب قليلة لكنها مبدعة، ومبشرة فى السرد الروائى وفى فضاء قصيدة النثر، وفى النقد الأدبى، وسوف تفرض إبداعاتها بقوة الإبداع!

من الملاحظ أيضًا ضعف الإنتاج الأكاديمى وغيره فى المجال الفكر الفلسفى، وانفصال الفكر المدرسى السائد فى الجامعات عن قضايا الثقافة المصرية، على خلاف ما يتم فى المنطقة المغاربية، أو متابعة الفكر الفلسفى فى عالمنا! وعدم طرح الأسئلة الفلسفية الجديدة فى ظل تحولات الثروة الصناعية الرابعة ومؤثراتها الخامسة!

تبدو ثقافتنا ثقافة الإجابات سابقة التجهيز، والإفتاءات بديلًا عن ثقافة الأسئلة التى تحرك العقل النقدى والدافعة إلى الهدم والبناء، والتغيير، والتحول، ومن ثم فهى ثقافة تمجد أسلافها، وتشيع مسًا من التمجيد، وشبه القداسة حولهم، سواء أكانت دينية وضعية، أو شبه حداثية من هنا تبدو اليقينية، والإطلاقية، سمت إجاباتها التى يعاد إنتاجها وبعضها لم يعد ملائمًا لعصور متغيرة ومتحولة!

من المثير أيضًا هذا الانفصال بين ثقافتنا العليا وثقافة الجموع الغفيرة الشعبية، وبين الثقافة الخاصة بالعلوم الطبيعية، والتكنولوجيا فى تطوراتها الفائقة، فى التعليم وفى نظرة الجموع للعلم ونظرياته، وكأنها عوالم لا علاقة لنا بها، ولا بالعقل المصرى! من ثم تبدو قيمة العلم فى حياتنا، فى تفكيرنا، فى تحليل مشاكلنا، وإيجاد الحلول لها، بعيدة، سواء لدى غالب بيروقراطية الدولة ولدى غالب الجموع الغفيرة، ومعها غالب المتعلمين من المصريين!

ما سبق من ملاحظات وجيزة ليس هدفها إشاعة اليأس وفقدان الأمل فى التحرر من هذه السلبيات المتراكمة، ولا فقدان الهمة، والعزم على مواجهة مشاكلنا، ولكن تشريح الجروح الغائرة من أجل السعى إلى إيجاد سياسات ثقافية وتعليمية، وبرامج عمل للحركة نحو التجديد الثقافى والتعليمى، والعلمى بعيدًا عن الشعارات الكاذبة، التى أدمنها بعضهم، أو المسكنات التى لم تعد صالحة لتخفيف الألم، وأعراض المرض المستمر منذ عقد السبعينيات من القرن الماضى، ويحتاج إلى وقفة صارمة بحثًا عن أبواب جديدة للحل!