جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

أين اختفت مذكرات «سعيد» وجائزته؟

يظل اسم الإذاعي الراحل أحمد سعيد محل نقاش ومثار جدل واسع في الأوساط الإعلامية لعدة أسباب موضوعية: لعل أبرزها هي "موضوعيته" ذاتها، فمنتقدوه يرون أن أسلوبه الدعائي المروج لنظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وأفكاره كان سببًا رئيسيًا لنكسة 1967.
في حين يرى تلاميذه ومريدوه أنه مثّل رقمًا صعبًا في مسيرة الإعلام العربي الرسمي، وأن ما يحاول البعض إلصاقه به من تهم هي في الحقيقة أسباب إعلان أنصاره نجاحه بل وعبقريته كإعلامي.
فنجاح مهمة الإعلامي - في حينه وربما حتى اليوم- يتلخص في مدى قدرته على التعبير عن وجهة نظر الجهة التي يمثلها وينتمي إليها والتماهي مع مواقفها وتبني سياساتها والسعي لإقناع الآخرين بها، بغض النظر عن مدى إيمانه الشخصي بهذه السياسات وقناعاته الذاتية تجاهها.
ولم يفعل الرجل أكثر من هذا، فقد ترجم - وباحترافية تحسب له لا عليه- سياسات النظام الناصري وقناعاته وأحلامه إلى أعمال برامجية بأسلوب مقنع ومشوق نجح في اختراق قلوب جمهوره المستهدف قبل آذانهم. ولعل هذا النجاح - فضلًا على قناعته الشخصية وإيمانه بما يقول- كان السبب في تصديق الناس له، ومن ثم جاءت النتيجة عكسية حين تعرض النظام الذي روّج له لهزيمة قاسية في يونيو 67، فكان الرجل وحتى اليوم هو أول وأبرز ضحايا النكسة.
ولا أدري لماذا حمّل الناس تبعات الهزيمة وانعكاسات النكسة على سعيد وحده دون غيره، في حين أن نظام ناصر كان له أشياع كثر في الصحافة خصوصًا والإعلام عمومًا ليس في مصر وحدها بل في العالم العربي من محيطه إلى خليجه، وربما جاءت قسوة الانتقادات التي تعرّض لها الرجل سببًا في قراره بالانسحاب من العمل العام، والابتعاد عن الأضواء لسنوات طويلة.
وعلى الرغم من هذا الانزواء الذي تمت بإرادته الشخصية، إلا أنه ظل متابعًا لمسيرة الإعلام ومتفاعلًا بكتابات وحوارات وعطاءات إعلامية أتاحتها له منصات عربية كثيرة أدارها تلاميذه ومريدوه.
وكانت للرجل طلاّت ومتابعات نادرة - بحكم تقدمه في السن وظروفه الصحية- لكنه كان الظهور المؤثر دائمًا، أذكر مثلًا أنني تشرفت في بداياتي بلقاء مطول معه - كصحفي وليس كإذاعي- وحينها حصلت منه على مقالات وحوارات وموضوعات صحفية له وعنه ومعه، تأخرت في إعادتها إليه لفترة طويلة ثم مررت على حارس العقار وأعطيته إياها ليسلمها له مدفوعًا بتأنيب الضمير حين نضجت وأدركت قيمة هذه الأوراق بالنسبة لصاحبها.
ثم ظهر الرجل ظهورًا بارزًا يوم 4 يوليو 2003 في الاحتفال بالعيد الذهبي لتأسيس صوت العرب، وأذكر أنه في كلمته بتلك المناسبة وفي حضرة وزير الإعلام حينها السيد صفوت الشريف، اقترح - وبعبقرية مهنية تستجيب لتغيرات الزمن- أن يكون هناك امتداد لمدرسة صوت العرب الإذاعية بتأسيس ذراع مرئي لها متمثل في قناة تليفزيونية تحمل نفس الاسم وتستهدف الجمهور العربي مستعينة في جزء من خدماتها بخبرات صناع المسموع ومصادرهم وعلاقاتهم.
ويومها وعد الشريف بسرعة إصدار قرار بتحويل قناة المنارة الثقافية لتصبح هي الامتداد التليفزيوني لصوت العرب المسموع، لكن ترك الشريف لمهامه في وزارة الإعلام بعدها بأشهر قليلة حال دون تنفيذ فكرة سعيد الطموحة.
وتقديرًا من جامعة الدول العربية لقيمة ومهنية أحمد سعيد وخلال اجتماع حضره وزراء الإعلام العرب يوم 12 يوليو 2017 تم اختيار صوت العرب كأهم إذاعة عربية داعية للفكر القومي العربي، وتم حينها منح سعيد جائزة التميز الإعلامي العربي، وكان هذا هو الظهور العام الأخير للرجل، فما لبث أن تراجعت صحته حتى توفي يوم 5 يونيو 2018 في تاريخ لا يخلو من الحكمة الإلهية البالغة.
وبعد الرحيل أطلعتني الدكتورة لمياء محمود، رئيس صوت العرب السابق، على نسخة من مذكرات سعيد، كان الرجل قد أعطاها لها للاستفادة بما فيها في برامج صوت العرب، غير أن تلك المذكرات وللأسف الشديد لم تر النور حتى اليوم رغم إلحاح جهات نشر كبيرة مصرية وخليجية وجزائرية في طلب تولي نشرها، ولا أدري لماذا يضن نجله المهندس خالد بهذا الكنز التاريخي الذي لا يخصه وحده؟ ومن يضمن أن يبقى للمكتوب ذات المصداقية والقبول بمرور الأيام ورحيل كثير من شهود وقائعه والمؤمنين بأفكاره؟ ولا أظن أن للأسرة مطامع مالية تمنع تأخير نشر المذكرات، فما أعرفه أن عروضًا سخية جدًا عرضتها جهات كثيرة نظير حقوق الطبع، فما السر وراء تأخر الأسرة إذن؟ لست أدري.
وأعلم أيضًا أنه كانت هناك رغبة ومسعى عملي ووصية للرجل بإيداع نصف مليون جنيه كمبلغ مالي في أحد البنوك تخصص عوائده لمنح جائزة سنوية باسمه للأعمال والشخصيات الإعلامية المتميزة على المستوى العربي، والتي تتبنى فكرة القومية العربية وترسخ للأفكار التي نادى بها وسعى لتحققها طوال مسيرته المهنية، غير أنه سرعان ما تلاشت الفكرة واختفت اختفاءً يوازي في غموضه اختفاء نية نشر المذكرات.
يقيني أن جزءً مهمًا من مسيرة الوطن العربي السياسية والإعلامية ستكون بين دفتي تلك المذكرات، وأن جائزة "سعيد" السنوية ستكون مدعاة للحديث سنويًا عن سيرة ومسيرة الرجل المهنية الناجحة بامتياز، وستكون دافعًا لتجديد الحديث عن الهوية العربية الواحدة.
أضف إلى كل ما سبق أنها ستكون محفزًا لتشجيع جيل جديد من الإعلاميين الذين يتبنون فكرة العروبة، ويتحمسون لإبرازها في أعمالهم وتعزيز قناعات الناس بمبادئها التي يكاد يطويها النسيان.