جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

غناء محمد رمضان

بطبيعتى أنتمى إلى الفريق الذى يبيح الغناء لكل فرد على وجه هذه الأرض.. الطيور تغنى.. والحيوانات تغنى.. الزهور تغنى.. حتى الجماد أظن أنه يغنى.. فمن ذا الذى يستطيع أن يمنح ويمنع وقد منحنا الله حناجرنا لنصدح بها؟!

إذن وقبل أن ندخل فى تفاصيل ما جرى هذا الأسبوع فى مدينة السماح.. فى المدينة التى عُرفت طوال تاريخها بالتنوع والاحتفاء بكل ما هو غريب.. «الإسكندرية عروس المتوسط» التى بناها الإسكندر، أو أعاد بناءها على نحو أدق، بحيث تصل جميع شوارعها إلى البحر، وما أدراك ما البحر الذى يسع الجميع.. كيف تتحول مدينة التنوع والبراح وقبول الآخر إلى أولى مدن المنع؟! لمن لا يعرف القصة.. يقيم الممثل محمد رمضان من حين إلى آخر حفلًا غنائيًا يقدم فيه ما يعتقد أنه غناء واستعراض، وذلك الذى يقدمه، أيًا كان اسمه، وجد له جمهورًا يطلبه ويدفع الكثير مقابل الحصول على ثمن تذكرة لدخول الحفل الذى يُقدَم من خلاله.. حدث هذا فى القاهرة والعلمين وأماكن أخرى من محافظات مصر، وتعداها إلى دول عربية مجاورة وإلى تركيا أيضًا.. إلا أنه، وفى غضون الأسبوعين الماضيين، فوجئ المصريون بحملة من جماهير الإسكندرية، ولم يحدد أحدهم نوع وعنوان هذا الجمهور، تدعو لمقاطعة حفل محمد رمضان، ومنعه من دخول الإسكندرية.

البعض دفع بأن وراء الحملة عناصر تنتمى إلى السلفيين الذين يسيطرون على أماكن متعددة فى الإسكندرية الجديدة.. إسكندرية العشوائية.. لكن الأمر مردود عليه.. لماذا يهاجم أو يقاطع السلفيون تحديدًا محمد رمضان وحفلاته.. ويسمحون لكل مطربى الراب والمهرجانات وأهمهم خرجوا من الإسكندرية ذاتها ومن أحيائها الشعبية تحديدًا؟! 

محمد رمضان مجرد شاب تعود جذوره إلى صعيد مصر.. إلى محافظة قنا تحديدًا.. جاء والده من هناك بحثًا عن الرزق وعن حياة أفضل لأبنائه وآخرهم محمد الذى التحق بمدارس الجيزة حتى الثانوية، ليلتحق بعدها بجامعة عين شمس ويحصل على شهادة من إحدى كلياتها. ولأنه يحب التمثيل فقد راح يبحث عن فرصته فى أدوار صغيرة ببعض المسرحيات.. هناك من قابله بالترحاب ووجد فيه مشروع ممثل جيدًا، وهناك من ضحك على تقليده للممثلين ونكاته الصعيدية.. الأمر الذى ترك أثرًا فى شخصية «الألمانى».

ظهر بوستر «الألمانى» بجنزيره والصدر العارى فى نفس اللحظة التى سيطرت فيها الجماعة الإرهابية على مفاصل البلاد، وأُعلن عن فوز مرشحها محمد مرسى رئيسًا للبلاد.. وحدث بعدها ما حدث من حالة انفلات غير مسبوقة عاشتها مصر، وما زالت تعانى من تداعياتها.

فى ظل ذلك التفكك والتشرذم فى الشارع المصرى.. وسط حالة الترقب والذعر والخوف على مستقبل البلاد، وفى ظل انهيارات كاملة لبلدان مجاورة أصابها الربيع العربى فى مقتل.. كان القطار الذى جاء بمحمد رمضان من الصعيد يصعد بسرعة صاروخية.. وكان للقصة التى كتبها الزميل حسان دهشان، مستعينًا بحادثة جرت قبلها بسنوات لابنة إحدى المطربات، الفضل الأكبر فى تعاطف جماهيرى غير مسبوق مع شخصية «ابن حلال» التى أداها رمضان وأصبح اسمها «حبيشة».

ابن الحلال محمد رمضان لم يمش فى ركاب سيرة أحمد زكى بطل قصته المفضلة ومثله الأعلى، فقد اصطاده السبكى ليمرر من خلاله شخصيات سينمائية فاسدة، لكنها موجودة فى الشارع المصرى.. وأصبحت شخصية رمضان قريبة للشاب البلطجى رغم أدائه شخصيات مختلفة، من بينها دوره فى «احكى يا شهرزاد»، أو فى فيلم «الكنز».. ورغم تنوع أدوار محمد رمضان حتى تمثيله شخصية الضابط مثلًا فى مسلسل «نسر الصعيد» فإن «الذهنية الشعبية» اعتبرته بطلًا لكل ما هو خارج.. وزاد من الأمر أن قرر هو الاشتباك والانتقام من كل من يرى أنه يعرقل نجاحاته أو ينتقد من رحلته أو من طريقته فى التعامل مع الإعلام والناس.. وكان أن قرر أن تكون الأغنيات وسيلته الأسرع ضد من يشكك فى كونه «نمبر وان» فى السينما المصرية.. قرر أن يكون «نمبر وان» على المسرح أيضًا.

أغلب من تعرضوا للزار فى كل أشكاله استراحوا لفكرة اعتباره حالة إيقاعية صِرفًا، فيما تعامل معه أهل الطب باعتباره علاجًا نفسيًا يفرغ طاقات البشر الموجوعين لأسباب مختلفة فى بيئات فقيرة لم يصل إليها الطب الحديث.. وظنى أن ما يقدمه محمد رمضان هو بالأساس حالة «زار» استفادت من تقنيات المسرح والسينما والإضاءة وفنون الاستعراض.. ومن حالات موسيقية تطورت بمرور سنوات متتالية بداية من ظهور «الجاز» الأمريكى قادمًا من أصول إيقاعية مهاجرة من إفريقيا.

فى هذه الحالة لا يمكنك أن تسأل عن الشعر أو الموسيقى أو الأداء الطربى فيما يقدمه رمضان ومَن هم على شاكلته، ولا يمكن بحال من الأحوال التعامل معه على أنه نوع من أنواع فن المونولوج الذى قدمه إسماعيل ياسين وثريا حلمى وشكوكو.. فكل هؤلاء كانوا أصحاب أصوات غنائية منضبطة.. والكلمات التى كانوا يؤدونها تنطبق عليها كل قواعد الشعر المكتوب والمغنى.. مثلما تنطبق قواعد علوم الموسيقى على ألحانها. 

بهذا الفهم أحاول الاقتراب من حالة محمد رمضان باعتبارها حالة زار قديمة فى ثوب عصرى، بطلها ممثل معروف اكتسب جماهيرية سابقة عبر السينما والتليفزيون، فأضافت هذه الميزة إلى حالة الزار حالة حضور جماهيرى كبيرة سمحت له بالحصول على ملايين المشاهدات عند تقديمه أغنيته الأولى التى تكلفت، حسب تقدير أحد المتابعين، ثلاثة ملايين جنيه مصرى دفعة واحدة، دفعها رمضان من جيبه الخاص ليرد على منتقديه الذين زعموا أنه ليس الأول فى «طابور الممثلين».

والنجاح الذى صادف الكليب الأول والحفل الأول دفع رمضان إلى الاستمرار والتماهى مع كونه «صاحب حالة» أيضًا فى مجال الغناء، وأن له جمهورًا يذهب إليه بالملايين مثلما يذهب إلى قاعات السينما.

هذه القناعة دفعته إلى الاعتماد على شكل موسيقى المهرجانات قالبًا يصب فيه فكرته التى يؤكد عليها من كليب إلى آخر.. «أنا الأول.. والأخير» ومن حولى «فقاعات» ليس إلا.. الرجل لم يزعم أنه صاحب رسالة.. أو أنه المطرب العاطفى الذى ينافس تامر حسنى وعمرو دياب.. ولا أنه المطرب صاحب الصوت القوى الذى ينافس صابر الرباعى وعلى الحجار ومحمد الحلو.. هو «الأنا التى تبحث عن ذاتها»، وتجد فى ذلك متعة ومكسبًا يعتقد أنه يبقيه فى مقدمة المشهد الذى حلم به طويلًا، ويعتقد دومًا أن هناك من لا يريد أن يبقيه فى موقعه.

هذه هى القصة.. وأى متابع عاقل يملك القدرة على مشاهدة ثلاثة كليبات فقط مما قدمه رمضان سيصل إلى ذلك الفهم دونما تنمر على الرجل أو احتفاء مسبق بما يقدمه.

فى كليب «تنطيط» الذى حقق ٢٦ مليون مشاهدة على «يوتيوب» يقول رمضان: «باصحى وبافطر ديناميت»..

هو رجل خارق إذن.. 

«وسعو كده وسعوا..

كنت باجيب حاجة وجيت..

حان الآن وقت التنطيط».. 

إذن هو يؤكد أن ما يفعله ليس صدفة.. بل إنه يخطط لذلك.. وأنه لا يفرق معه الصيت عشان كده هوه «غاوى تنطيط».. كلمات عشوائية قطعًا لكنها مثل ما يؤدى فى الزار تصل إلى الغاية المهمة التى يحتاجها «كودى الزار».. حالة إغراق من هو أمامه فى الغيبوبة بعيدًا عن واقعه، مستمتعًا بأنه الخارق الذى يأكل الديناميت.

الكليب التالى الذى اقترب من عشرة ملايين مشاهدة يحمل اسم «بلالين»، ويظهر فيه رمضان مرتديًا الأبيض وسط أجواء حمراء أسطورية ليغنى:

«الأسطورة أنا لقبونى»..

ثم يكمل:

«لو عرفتوا تاريخى يابا

هتقولولى بابا..

صعب إنكم توصلولى..

بلالين إنتوا بلالين..

منفوخين فى الهوا»..

هو يبدأ حربه الخاصة ضد منتقديه الذين يقسمهم إلى صفين ويطلب مَن هم فى صفه الوقوف بجواره..

ويختم بأنه

«خدت المجال لحسابى وحدى.. 

جمهورى فى ضهرى ملايين»..

أما الآخرون فهم فشلة بالفطرة، هكذا يناديهم ويراهم، ليس فى أغنيته فقط ولكن فى «خياله».. هو يؤمن بأنه «باع المية فى حارة السقايين.. جامد من يومه».

وفى كليب تالى.. صدر قبل شهر واحد.. يكمل حكايته لأنه عارف أنهم «متغاظين قوى» وهو يرتدى الأخضر هذه المرة مستعينًا بموسيقى وإيقاعات شعبية أقرب إلى روح الحوارى.. «فى أى حتة أنا أخش أقلبها».. هذه هى القناعة التى يريد رمضان أن تصل لكل من يسعى لأن يكون مثله.. من يراه نموذجًا.. هؤلاء الذين يرون فى الشاب الصعيدى الفقير «هيرو» تحاوطه النساء من كل جانب ويركب الطائرات الفخمة ويرتدى الأزياء البراند و«يلعب بالفلوس لعب».

هذا النموذج يحتاجه الكثيرون فى الشارع فى ظل ظروف اجتماعية لم تدع لمتوسطى المهارة فرصة ولا لمن يملكون المهارة أيضًا.