جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الرئيس السيسى وعلاج الجذور

لا تخطئ عين الجهد الدءوب الذى يقوم به الرئيس السيسى طوال الوقت من أجل استدراك ما فات مصر فى سباق التنمية الصعب، وهو للأسف كثير.. والنظر إلى نشاط الرئيس خلال الأيام الثلاثة الماضية فقط يضع إضاءات واضحة على خريطة تفكيره فى كيفية تحقيق مشروعات ذات عائد سريع تستعين بها مصر على مواجهة آثار الأزمة العالمية.. فمنذ أربعة أيام وضمن حزمة قرارات خاصة بالصحة، وجه الرئيس بأن تتحول مصر إلى مركز إقليمى لجراحات نقل الأعضاء، وأوصى ببناء مركز صحى على أعلى مستوى فى مدينة معهد ناصر الطبية على نيل القاهرة.. إن هذه خطوة لا بد منها إذا أرادت مصر أن تدخل مضمار السياحة العلاجية الذى سبقتنا إليه دول أخرى فى الإقليم.. والسياحة العلاجية هى أن يأتى الآخرون إلينا بغرض العلاج والنقاهة والاستفادة من تقدم منشآتنا الصحية، وقد انطوت الخطوة على توجيه شجاع بعدم الخضوع لإرهاب بعض الفتاوى القديمة والخاطئة بعدم جواز نقل الأعضاء.. استنادًا لآراء باتت أقلية فى الفقه الإسلامى لدرجة أن المملكة العربية السعودية خطت خطوات واسعة فى جراحات نقل الأعضاء، بينما تم تعطيل مصر فى هذا المجال بفضل فتاوى قادمة من عصور الظلام.. هذا الجهد الإصلاحى للرئيس السيسى الذى يتابع كل التفاصيل بنفسه ومن خلال معاونيه لا بد أن يمتد إلى «علاج الجذور»، وهو تعبير شهير يستخدمه أطباء الأسنان.. فلا بد من رعاية استثنائية لكليات الطب، وهى الأكثر عراقة فى الشرق الأوسط كله، ولا بد من إبداع فى تنفيذ توجيهاته بإلغاء التكليف ودفع أجر عادل للطبيب الشاب.. لأن هذا سيتحول إلى مصدر للعملة الصعبة إذا نجحنا فى الرهان على السياحة العلاجية وعلى اجتذاب المواطنين العرب والأفارقة للعلاج فى مصر.. نفس الأمر ينطبق على الموضوع الثانى والأهم الذى عالجه الرئيس أمس الأول فى افتتاحه لعدد من المشاريع الصناعية والاستثمارية.. ليس فقط فى تشجيعه للصناعة من حيث هى وتد رئيسى للتنمية وزيادة الصادرات وتوفير العملة الصعبة وتربية مواطن منضبط يعرف قيمة العمل والإنتاج والإضافة والكسب الحلال.. ولكن الرئيس وهو أكثر الناس وعيًا بالمشكلة المصرية ذهب مباشرة إلى «علاج الجذور» حين تحدث عن ضرورة تطوير التعليم الفنى ووجه الدعوة لرجال الأعمال للمساهمة فى تطوير هذا التعليم من خلال إتاحة فرص التدريب لطلاب التعليم الفنى فى مصانعهم.. والحقيقة أننى أرى أن الدولة يجب أن تأخذ زمام المبادرة فى هذا المجال كما فعلت فى كثير من الأمور.. وأدعو لتفجير ملف التعليم الفنى من الأساس، حيث لدينا آلاف المدارس الفنية أغلبيتها الكاسحة بلا فائدة حقيقية ولا نفع.. وقد أخبرنى صديق يدير مشروعًا سياحيًا بأن الأغلبية الكاسحة من عمال النظافة فى المشروع من خريجى التعليم الفنى وأقسم أن الجميع تقريبًا لا يجيدون القراءة والكتابة رغم حصولهم على الدبلوم التجارى أو الصناعى، وأنهم يطلبون من مسئول الخزانة أن يوقع بدلًا منهم فى كشف المرتبات لأن بعضهم لا يستطيع كتابة اسمه!! فهل هذا حال يرضى الله؟ وهل بمثل هؤلاء ندخل سباق النهضة؟.. ينقسم التعليم الفنى إلى مدارس تدرس علومًا تجاوزها الزمن مثل التعليم الفنى التجارى.. الذى كان يهدف فى الماضى لتخريج كاتب حسابات.. وهى مهنة تجاوزها الزمن من خلال برامج الكاشير، وغيرها فى الأماكن المختلفة.. خاصة أن نقص الإمكانات لا يسمح بأن يتعلم طلاب هذه المدارس علوم الكمبيوتر أو ما شابه.. ومع ذلك فما زالت هذه المدارس مفتوحة وتُصرف لها ميزانية من التربية والتعليم ويتردد عليها طلاب ويحصلون على شهادات فى نهاية فترة الدراسة.. فى أكبر عملية خداع للذات نمارسها ضد أنفسنا بمعرفة كل الأطراف.. نفس الأمر ينطبق على التعليم الفنى الزراعى.. الذى يدرس علوم الزراعة دون مزارع وفنون البستنة دون بساتين ودون أى إمكانات من أى نوع.. ولعل هدفه النهائى هو تخريج «مساعد فلاح»، وهى مهنة لم أسمع عنها فى حياتى، وهو أيضًا تعليم صورى.. ويبقى التعليم الفنى الفندقى وهذا تعليم منطقى ومبرر يعمل خريجوه فى مجالهم بالفعل.. والتعليم الفنى الصناعى الذى تحتاج الغالبية العظمى من مدارسه للتطوير الذى دعا له الرئيس وللالتحاق بمصانع تعمل بالفعل يتعلم فيها الطلاب ثم يلتحقون للعمل بها.. ونصيحتى المخلصة هى أن يصدر قرار ثورى من وزير التعليم بنقل مدارس التعليم الزراعى لتلحق بمشاريع «مستقبل مصر» و«الدلتا الجديدة» و«المليون ونص فدان» وأن يسافر من يريد دراسة هذا النوع من التعليم لهذه المشاريع ليدرس ويعمل فيها، وأن يصدر قرار أكثر ثورية بإغلاق مدارس التعليم التجارى والاستفادة بمقراتها فى دعم التعليم الابتدائى والإعدادى، وأن تنقل مدارس التعليم الصناعى لتلحق بالمصانع فى المدن الصناعية وتتم الاستفادة بمقراتها داخل المدن فى حل أزمة مقرات المدارس الابتدائى.. هذا إذا كنا نريد علاج المشاكل من الجذور والمساعدة فى تنفيذ رؤية الرئيس بدلًا مما يفعله الجميع منذ أربعين عامًا من الالتفاف على المشكلات والبقاء محلك سر.. والادعاء بأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان.