جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

صلاح بيصار.. الناقد الكشاف الفنان

كثيرًا ما يردد الناقد والفنان التشكيلى الكبير «صلاح بيصار» حول أهمية دور النقد والنقاد فى مسيرة الحركة التشكيلية «حيث يرى أن الناقد هو كشاف الحركة التشكيلية ودونه الحركة منقوصة».. وهو ما حفزنى لإلقاء الضوء حول دور وعطاء رموز الإبداع النقدى فى سلسلة مقالات تقديرًا لدورهم العظيم، وكانت البداية بمقالى الأسبوع الماضى بعمودى الأسبوعى بجريدتنا الغراء حول الإسهامات البديعة للناقدة الفنية المتميزة «فاطمة على».. واليوم يسعدنى الاقتراب من رحلة الفارس الصحفى والناقد المحب للفنون ومبدعيها «صلاح بيصار» لبيان زوايا رؤيته لرموز العمل الفنى ومدرسته النقدية المتميزة..


ولعلى أقدم محاولة واجتهادًا عبر تلك سلسلة من المقالات لتناول دور النقد والنقاد والإحابة عن أسئلة من نوعية:
• هل تتناغم منتجات الحركة التشكيلية ومسارات تطورها مع المواكبة النقدية المناسبة لها؟
• هل يُعد ما يتم رصده من متابعات نقدية للحركة الفنية أنها كانت قادرة على استكشاف أنساقها ونشر مفاهيمها والاقتراب من أدواتها وسبر أغوار تجلياتها الإبداعية؟


أعود إلى الناقد والفنان «صلاح بيصار» الذى يرى أن الفن التشكيلى هو أرفع الفنون وأسبقها، مصر كتبت تاريخها بالأزميل والفرشاة، وتاريخنا يبدأ بالفراعنة الذين سبقوا العالم، ولدينا نسبة هائلة من آثار العالم كلها فن بين مجسمات وأوابد صرحية وتماثيل ومعابد وجداريات وأدوات الزينة «القلادات»، ورغم ازدهار المجتمع يظهر بالضوء المسلط على الفن التشكيلى، فإذا اختفى الضوء.. من أين للفنان أن يلمس نتاج عمله..


و«بيصار» كما وصفه وعرفه الأصدقاء تعود سماته الإنسانية والنقدية الطيبة المتسامحة إلى ما تمتع به من سمات طفل القرية عندما تفتحت عيناه على ساحة الجامع والجرن والحقل وصحن الدار وشاطئ الترعة فى قرية شنوان..


وفى هذا السياق يذكر الفنان الرائد العظيم الراحل حسين بيكار أن «بيصار» له من سمات البساطة الريفية والشفافية الطفولية التى تصنع مناخ القرية المصرية، وعليه يتناول الفنان «صلاح بيصار» موضوعه البسيط جدًا والرقيق جدًا ويؤلف منه أهازيجه الشجية فى غير تكلف أو افتعال، وكأنه شاعر يعزف على ربابة بوتر واحد.. إن القرية ما زالت تعيش فى أعماقه، نموذج ذكرياتها فى خاطره ووجدانه، حتى أصبحت كيانًا غائرًا وراسخًا فى تكوينه النفسى لا يستطيع انتزاعه، حتى وهو فى ذروة انغماسه فى حياة القاهرة، عندما كان يدرس وهو طالب للفنون، أو حيث عمل بمؤسسة دار الهلال وغيرها من المؤسسات الصحفية، وبنفس التحدى الذى يواجه به طفل القرية واقعه البدائى وحياة الفقر والجفاف فيلجأ إلى أبسط الأشياء يلعب بها ويملأ بها حياته بالبهجة والمرح، كأن يصنع من عود الحطب حصانًا يركبه أو من حفنة الطين لعبة يلعب بها أو من إطار عجلة قديمة طوقًا يسوقه أمامه، أو من قطعة من الخشب زورقًا يعومه فى الترعة أو المستنقع، بنفس هذا التحدى يستخدم الفنان أدوات تعبيره من أبسط الأشياء، مؤكدًا أن الأشياء الصغيرة أو الحقيرة يمكن أن ينتج عنها أعمال كبيرة وعظيمة تغمر نفوسنا وعقولنا بإشراقة صوفية عميقة الأثر حريفة المذاق، وإن العبرة بجواهر الأشياء لا بمحتواها السطحى أو الرغوى، وما زال محتفظًا بنقاء طفولته فقد قال بيكاسو ذات مرة إننى بدأت أرسم كفنان عجوز معمر، وانتهيت إلى أن أرسم كطفل فى مقتبل العمر.


وأعجبنى ما وصفه به الناقد الرائع د. سامى البلشى أن الفنان والناقد الطيب صلاح بيصار قد أدهشه بحيويته المرتبطة بقدر كبير من الطيبة.. ملامح وجهه تبتسم لك فتراه دائم البشاشة.. فهو فنان بداخلة ناقد، وناقد بداخلة حب للجميع.. مثقف بامتياز، وعاشق للأطفال والإبداع لهم.. لا يبخل بمعلوماته على أحد، ولم يطلب مجاملة له، ولم يزاحم أو ينشغل بتوزيع المهام والأدوار، فاستراح من وجع الدماغ واكتفى بحب الجميع له.. إنه صلاح بيصار ابن الدلتا الذى اهتدى مبكرًا إلى أن سريان مياه النيل تجرى فتروى، فاختار أن يكون كذلك.


ولعل «بيصار » أول من نبه لخطورة انتشار تماثيل القبح، فذكر أن قصص هذه التماثيل تعود إلى المحليات، بعد أن أقحم المقاولون أنفسهم فى عملية تجميل الميادين ودخلوا مناقصات وقدموا عطاءات، ثم تقع الكارثة بأن يفوز أحدهم بها، فيشترى مجموعة ضفادع من الصين ويضعهم فى وسط الميدان يخرج من فمها الماء كـ«نافورة»، أو «كرة» أو «قوس»، توليفة أشكال عجيبة، ليست لها صلة بالنحت لتبدو كـ«تمثال»، إلا أن القصة تطورت إلى فواجع، على سبيل المثال أيام حكم مرسى ظهرت «أم كلثوم» منتقبة فى المنصورة، وتمثال نفرتيتى تحول بفعل المقاول إلى امرأة بلهاء «عفريت نفرتيتى».. نماذج لو حضرت أرواح أجدادهم الفراعنة لرجمتهم عليها بحجارة الأهرامات..


ولأن صفحاتنا على الفيسبوك باتت مرآة رائعة لصاحبها، فالمتابع لصفحة الفنان والناقد الرائع «صلاح بيصار» الفسبوكية يرى أنها تمثل تجسيدًا صادقًا لحالة فنان وناقد يعشق الفنون التشكيلية ويدير صفحته وكأنها موقع إلكترونى خدمى تابع لوزارة الثقافة، يحرص من خلالها على تغطية أخبار الأحداث الفنية والإعلان عن افتتاح المعارض وأماكنها، ومركز تنويرى لكاتب صحفى مهنى صادق، وساكنى صفحته الدائمين من أمثالى المحظوظين بصداقته يلاحظون شغفه بإبداعات الشباب عند التعرض لأنشطتهم الإبداعية بحب وتبنٍ ومتابعة الفنان والناقد الطيب الكشاف المبدع..


ولد الفنان والناقد صلاح بيصار عام 1952 وحصل على بكالوريوس الفنون الجميلة عام 197.. أقام العديد من المعارض الفردية فى الرسم والتصوير، منها على سبيل المثال معرض أنشودة البساطة1 بأتيليه القاهرة 1980، وأنشودة البساطة 2 عام 1983، كذلك كان له معرض مشترك مع الفنان مينا صاروفيم بقاعة إكسترا عام 2005 ومعرض مشترك أيضًا مع الفنان طوغان عام 2016..


له كتابات عديدة فى مجال الفن التشكيلى بالصحف والمجلات المصرية كالأهرام والمصور والهلال والقاهرة وأخبار الأدب ومجلة العربى الكويتية.


حصل الفنان على العديد من الجوائز مثل جائزة «أحسن عشرة كتب فى العالم» من معرض فرانكفورت الدولى عام 1997عن كتاب «محمد فى 20 قصة» طبع مع دار الشروق، وجائزة الآفاق الجديدة من معرض بولونيا الدولى لكتب الاطفال عام 2000 عن نفس الكتاب.


صدر له أكثر من كتــــــاب فى النقد التشكيلى من بينها «9 فنـــــانين كبار فى دنيا الأطفال»، «مثّال مصر محمود مختار» و«رخا رائد الكاريكاتير المصرى» و«حسن سليمان آخر فرسان الخمسينيات» مع «الناقد محمد حمزة والفنان سمير فؤاد» و«مصطفى حسين نجم فى سماء الفن والصحافة»، «وجوه» حول «الصورة الشخصية أو فن البورتريه منذ بدأ التاريخ حتى الفن المعاصر»، بيصار أيضًا له مقتنيات بمتحف الفن الحديث ولدى أفراد بمصر والخارج..

[email protected]