جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

تثقيف الشعب.. بين الدولة والقطاع الخاص

رغم ارتفاع تكاليف الطباعة وسعر الورق، توجد غزارة فى نشر الروايات فى مصر، الروايات فقط، ولم يعد هناك حماس لنشر الشعر والقصة القصيرة والنقد عند القطاع الخاص، وأصبحت منابر الدولة «هيئة الكتاب وهيئة قصور الثقافة تحديدًا» هى التى تقوم بهذا الدور، وإذا أراد شاعر أو كاتب قصة قصيرة أو ناقد نشر عمله خارج مؤسسات الدولة عليه أن يتحمل التكلفة، غزارة الروايات لا تعنى أننا أمام نهضة روائية، والعزوف عن نشر الشعر لا يعنى أن الشعر فى مصر مأزوم، والمتابع للمشهد سيقف أمام المفارقة الغريبة هذه، ربما تكون الجوائز الكثيرة المخصصة لفن الرواية فى مصر والعالم العربى وغياب المتابعات النقدية الجادة، من أسباب فيضان نشر الروايات، وغلبة الكم على الكيف، والرواية كما نعلم هى بنت الزمن، ويتصدى لكتابتها أصحاب التجارب والخبرات فى الحياة، ومع المعرفة، الآن يبدأ بعض الكتاب كتابتها وهم فى العشرينات من عمرهم، كتاب الستينيات على سبيل المثال بدأوا جميعًا كتابًا للقصة القصيرة، ولم يقتربوا من الرواية إلا بعد نشرهم أكثر من مجموعة قصصية، فى الخمسينيات والستينيات حدث خلاف كبير بين جهتين فى الدولة بسبب «الكم والكيف»، بين الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة وعضو مجلس قيادة الثورة وصديق الرئيس جمال عبدالناصر، وبين الدكتور عبدالقادر حاتم، وزير الإعلام، هذا الخلاف كتب عنه الأستاذ العظيم رجاء النقاش مقالًا فى العدد ٥٨٧ من مجلة العربى الكويتية، حكى فيه كيف استقبل عكاشة خبر اختياره وزيرًا بعد مشاهدته عرضًا أوبراليًا فى روما مع زوجته، وكان وقتها «سنة ١٩٥٨» سفيرًا للجمهورية العربية المتحدة فى إيطاليا أيام الوحدة مع سوريا، وكيف اتجه إلى القاهرة للاعتذار عن عدم قبول المنصب، لأنه لا يريد العمل فى السياسة، ويحكى عكاشة فى الجزء الأول من مذكراته: 

«صارحت الرئيس عبدالناصر باضطرارى إلى الاعتذار عن عدم قبول منصب الوزير الذى لم يستشرنى أحد فى أمر إسناده إلى، لا هروبًا من عمل جاد، بل تحاشيًا لوقوع صدام محتمل بين الشلل والتجمعات المتسلطة، وأنا عازف عن المناصب التى تشوبها صراعات على السلطة والنفوذ، وما يتبعها من مضيعة للوقت والجهد».

أجابنى عبدالناصر: «أصارحك أننى لم أطلبك لشغل وظيفة شرفية، بل إننى أعلم أنك ستحمل عبئًا لا يجرؤ على التصدى لحمله إلا قلة من الذين حملوا فى قلوبهم وهج الثورة حتى أشعلوها»، ثم قال له: «مصر الآن مثل الحقل البكر، وعلينا أن نعزق تربتها ونقلّبها ونسويها ونغرس فيها بذورًا جديدة».

وافق الدكتور ثروت وشارك فى «عزق» أرض مصر البكر من أجل اكتشاف ما فيها من إمكانات مجهولة، كان عبدالناصر أقوى منطقًا، وأعلى حجة، ومر أربع سنوات بعد ذلك على هذا الحوار الهادئ البسيط، ثم جاءت لحظة الخلاف الكبير الذى انتهى إلى الافتراق لمدة ست سنوات، حيث بعدها عاد الصديقان إلى الاتفاق، بعد أن اقتنع أحد الطرفين بوجهة نظر الآخر، وكان الطرف المقتنع هذه المرة هو عبدالناصر، والقضية- ببساطة- هى قضية «الكم والكيف» فى الإنتاج الثقافى، وأيهما يجب أن يسيطر، وأن تكون له السيادة والقدرة على توجيه الأمور؟ وقد نشأت هذه القضية منذ أخذت الدولة فى مصر تتدخل فى أمور الثقافة، فتنشر الكتب، وتقوم بإنتاج الأفلام والمسرحيات، وتأسيس الفرق المسرحية التابعة لها، بدأ الصراع بين وزيرين مهمين كانا يعملان معًا فى جمهورية عبدالناصر، وكان الأول وزير الإعلام الذى تتبعه الإذاعة والتليفزيون والصحافة، وكان الثانى وزير الثقافة، والذى يتبعه مسرح الدولة، ودور النشر الرسمية، ومؤسسة السينما وغيرها من المؤسسات الثقافية. وقد بدأ الصراع عنيفًا بين الرجلين، أو قل بين النظريتين، فحاتم مد نفوذه إلى الساحة الثقافية، وبدأ ينشر كتبًا، وينتج مسرحيات وأفلامًا، وكانت سياسته هى سياسة إغراق السوق بكمية كبيرة من الإنتاج الفنى والثقافى، وهو صاحب الشعار الذى يقول «كتاب كل ست ساعات»، وهذا الشعار هو الذى دمر صناعة الكتاب فى مصر، لأن كثافة الإنتاج كانت تفتقد للإتقان فى كل شىء، وهذا ما حدث فى المسرح أيضًا، فقد أنشأت وزارة الإعلام مجموعة من الفرق المسرحية، وقدمت نصوصًا لم يتوافر لها الحد الأدنى من الإنتاج الفنى، ومعظم هذه النصوص كان مقصودًا به التسلية، وكان يكثر فيه الارتجال أو التأليف الفورى، فى المقابل، كما يقول النقاش، كان ثروت عكاشة وزير الثقافة يكافح ببسالة من أجل تحقيق نظرية «الكيف فى الثقافة»، وهى النظرية التى لا يمكن أن تقوم دونها ثقافة حقيقية مؤثرة فى الحياة والناس، فكان الكتاب الذى تصدره وزارة الثقافة متقنًا من كل الجوانب، وكانت المسرحيات مستوفاة من حيث التأليف، والاختيار الصحيح للنص الذى له قيمة، والإخراج الذى يأخذ حقه الكامل حتى تصبح المسرحية ناضجة وصالحة للعرض، وبالطبع، كان لا بد أن يحدث صراع، وأن يؤدى الصراع إلى أزمة، وأن يكون من الضرورى حسم الموقف لمصلحة أحد الجانبين، والوحيد القادر على حسم هذا الموقف هو جمال عبدالناصر، خاصة أن المهزوم فى معركة الصراع بين «الكم والكيف» هو ثروت عكاشة الذى كان يدافع عن الكيف، انحاز ناصر لحاتم، وكانت وجهة نظره أن نظرية «الكم» تخدم قاعدة واسعة من أبناء الشعب الذين لم يكونوا يعرفون شيئًا اسمه «الثقافة» من قبل، أما نظرية «الكيف» فهى نظرية للخاصة الذين لم يتعرضوا للحرمان الثقافى كما تعرض له أبناء الشعب الفقراء.

وهذا الانحياز هو الذى أدى إلى استقالة ثروت عكاشة من وزارة الثقافة سنة ١٩٦٢، ثم ضم هذه الوزارة إلى وزارة الإعلام التى تتبنى نظرية «الكم»، وتعمل على أساسها، وكان هذا الضم أشبه من الناحية العملية بإلغاء وزارة الثقافة، ويحكى عكاشة فى الجزء الثانى من مذكراته:

«بادرت فذهبت إلى الرئيس عبدالناصر وقضينا قرابة ساعات أربع بينت له ما بين الرأيين من تضارب فى الوزارتين الثقافة والإعلام، وما قد يتبع هذا من نتائج تسىء إلى الثقافة، وتخلق البلبلة فى ساحتها، وقلت له إن التنسيق والتعاون بين الوزارتين أجدى وأنفع، لأنه يخدم رسالة الطرفين بدلًا من هذا التنافس الذى يهدم الرسالة الثقافية هنا وهناك، وكم دهشت أنى وجدت الرئيس عبدالناصر يؤيد موقف وزارة الإعلام، وقد أضاف إلى ذلك أنه يؤمن بهذا التنافس بين وزارات الدولة فى الأعمال الفنية والأدبية، وأنه لا يرى أن يكون العمل الثقافى- على حد قوله- حِكْرًا على وزارة الثقافة وحدها».

قال له عبدالناصر حين وجده مُصرًا على الاستقالة: «إن نظامنا الرئاسى لا يعرف استقالة لوزير». ولذلك حرص على أن يكون خروج ثروت عكاشة من الوزارة ضمن تشكيل وزارى جديد لا يكون ضمن أعضائه، وأسند إليه رئاسة البنك الأهلى، فى سنة ١٩٦٦، وبعد أربع سنوات عاد ثروت عكاشة إلى وزارة الثقافة، وبقى فيها حتى وفاة عبدالناصر سنة ١٩٧٠، وعند عودة ثروت عكاشة إلى الوزارة، قال له عبدالناصر ما معناه: «لقد كنت على حق، وقد كانت نظريتك فى الكيف أجدر بالرعاية والمساندة، فدونك ودون نظريتك وصلت الثقافة فى مصر خلال السنوات السابقة إلى الحضيض»، الكم فى النشر الآن الدولة ليست مسئولة عنه، ولكن القطاع الخاص الذى يطالب طوال الوقت بابتعاد الدولة عن الإنتاج الثقافى، أو الإنتاج بشكل عام، وها هى النتيجة: كم رهيب من الروايات.. وشعب لا تستطيع أن تقول إنه على دراية بما ينتج؟!