جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الانتخابات تُنهى سنوات الخصام

لماذا أصبح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فجأة، لطيفاً مع أعدائه، ساعياً إلى كسب ودهم؟.. سؤال قد يتبادر إلى أذهان المتابعين للمسلك التركي في المنطقة، على مدى سنوات طويلة مضت، وقد لا يعجب بعض العرب، (أكرر: بعض العرب)، الذين ما زالوا يرون في الرئيس التركي، الخليفة المُنتظر.
بداية.. لا تقلل أبداً من شأن أردوغان.. كرجل يعرف من أين تُؤكل الكتف، يمتلك شعوراً حاداً بالوقت المناسب للتخلي عن مواقف غير مواتية، وصولاً لأهداف آنية، أو قريبة التحقق، أو درءًا لمخاطر تحيط به وبحزبه الحاكم في أنقرة.. فعلى مدى معظم العقد الماضي، وضعت تركيا نفسها كقوة إقليمية مهيمنة، حيث أنشأت قواعد عسكرية في مناطق من الشرق الأوسط، واستعرضت عضلاتها في البحر الأبيض المتوسط، ونشرت قوات في ليبيا وسوريا والعراق.. سارت تصرفات أردوغان متسقة مع خطته محاولة نشر نفوذ تركيا في الأراضي العثمانية السابقة، وإعادة تشكيل المنطقة على صورة تركيا نفسها.. وشمل ذلك مساعدة الحركات المتأسلمة، ذات التفكير المتطرف، على الوصول إلى السلطة في أنحاء المنطقة.. حدد العداء الأيديولوجي بين هاتين القوتين، مع نظم الحكم العربية في منطقة الخليج والشرق الأوسط، شكل العداء في السنوات الأخيرة، وامتد إلى صراعات في ليبيا والبحر الأبيض المتوسط وسوريا، حتى إنه جذب دولاً أوروبية، مثل اليونان وفرنسا إلى مناطق الصراع.
الآن، يبدو أن كل ذلك يتغير.. بدافع من الحرب في أوكرانيا، وإحياء المنافسة بين القوى العظمى، وتقلص دور الولايات المتحدة في المنطقة، تتحول دول الشرق الأوسط إلى الداخل، وتعزز أنظمتها، وتسعى جاهدة للحد من التوترات مع بعضها البعض.. وتركيا هنا ليست استثناءً.. فخلال العام الماضي، أرسلت أنقرة مبعوثين إلى عواصم إقليمية، وعرضت تطبيع العلاقات مع خصومها السابقين.. وأعلنت أنها وإسرائيل ستعيدان تعيين سفيرين، بعد أكثر من عقد من العلاقات المضطربة.. في فبراير الماضي، سافر أردوغان إلى أبوظبي للقاء ولي العهد ـ وقتئذ ـ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، على الرغم من أن وسائل الإعلام التركية كانت قد صورت محمد بن زايد، على أنه عدو لدود لتركيا وراع لمحاولة الانقلاب الفاشلة في أنقرة عام 2016.. في مارس، قام المدعي العام التركي، الذي يحقق في مقتل الكاتب الصحفي جمال خاشقجي، عام 2018، بنقل القضية إلى المملكة العربية السعودية، وبالتالي السماح لأردوغان بزيارة الرياض واحتضان ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان.. كما أرسلت أنقرة وفوداً إلى مصر لإصلاح الأضرار الناجمة عن الدعم التركي لجماعة الإخوان المسلمين، وتورطها في الحرب الليبية.
بطبيعة الحال، لدى أردوغان أسبابه الشخصية الخاصة لرغبته في تكوين صداقات مع الأنظمة، التي كان يأمل في السيطرة عليها ذات يوم.. قبل الانتخابات العامة لعام 2023، يبدو الرئيس التركي أكثر ضعفاً من أي وقت مضى.. ومع وجود معارضة موحدة، واقتصاد في حالة ركود، فإن شعبيته آخذة في الانخفاض.. خزائن الدولة التركية شبه فارغة.. الليرة تتراجع، والتضخم تجاوز الـ 80%.. وعلى الرغم من قبضته المحكمة على البلاد، فإن فرص إردوغان في إعادة انتخابه غير مؤكدة.. ويأمل أن يؤدي تكوين صداقات مع الأعداء السابقين، وخاصة دول الخليج الغنية، إلى جلب الأموال التي تشتد الحاجة إليها، والتي ستمكنه، حتى الانتخابات القادمة، من درء خطر الإفلاس، من أزمة ميزان المدفوعات التي تلوح في الأفق التركي.
في انقلاب، ربما يكون الأكثر دراماتيكية في السياسة، تُلمح أنقرة الآن إلى أنها مستعدة، حتى لبدء حوار مع نظام بشار الأسد في سوريا، بعد سنوات من الضغط، من أجل تغيير النظام في دمشق، ودعم جماعات المعارضة المسلحة في شمال البلاد.. إن إصلاح العلاقات مع دمشق لا يتعلق هنا بعوائد مالية، بل إن الأمر كله يتعلق باسترضاء الناخبين الأتراك الغاضبين من وجود ملايين اللاجئين في بلدهم.. وتدعو المعارضة التركية، منذ فترة طويلة، إلى تطبيع العلاقات مع سوريا، مشيرة إلى أن ذلك سيؤدي إلى العودة الطوعية للاجئين السوريين.. والآن، يقفز أردوغان على هذه العربة، ويتخذ خطوات لتشجيع الملايين، الذين فروا من سوريا، إلى العودة إلى أوطانهم.
في الواقع، من غير المرجح أن تحدث مثل هذه العودة.. لقد أظهر نظام الأسد أنه غير قادر الآن على إصلاح ما أفسدته الحرب في بلاده، أو ضمان الظروف الملائمة للعودة الآمنة للمواطنين السوريين.. ومع وجود أربعة ملايين سوري مناهض للنظام داخل تركيا، وملايين لا يزالون على حدودها، لا تستطيع أنقرة فرض تسوية بين المعارضة والنظام، ناهيك عن إعادة السوريين إلى مستقبل ليست له ملامح حتى الآن.. لكن الوعد بالعودة إلى الوطن، على عكس الواقع، هو المهم قبل الانتخابات.. ويأمل أردوغان أن يؤدي أي حديث عن اتفاق مع دمشق، إلى إبعاد الانتقادات الواسعة النطاق لسياسته في سوريا.
بدأت مناورة أردوغان الإقليمية لخفض التصعيد تؤتي ثمارها مالياً.. وتظهر احتياطيات البنك المركزي التركي زيادة بلغت أكثر من 17 مليار دولار منذ بداية العام.. وتتكهن الأسواق بأن هذه أموال روسية وخليجية إلى حد كبير، وأن المزيد قادم.. في حين أن حلفاء الناتو ليسوا راضين عن قرار أنقرة بتجاوز العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، وتوفير شريان حياة لنظام فلاديمير بوتين، إلا أنهم التزموا الصمت إلى حد كبير بشأن رفضهم.. صحيح أن موقع تركيا الاستراتيجي، عند البحر الأسود، أمر بالغ الأهمية للدفاع عن النفس في أوكرانيا.. لكن آخر شيء يريده الغرب، هو استعداء أردوغان ودفعه أكثر نحو الكرملين.
إن إقبال أردوغان الدبلوماسي الذكي، من الناحية التكتيكية، باتجاه دول الشرق الأوسط، لا يغير حقيقة أنه مدفوع بالوعي بموقفه المحلي الصعب.. وعلى الرغم من الترنح البادي في تركيا، لا يزال النظام الانتخابي تنافسياً.. والناخبون غير راضين عن التضخم المتفشي، وسوء الإدارة الاقتصادية الفوضوية في البلاد بشكل عام.. قد يساعد ضخ النقد الأجنبي في درء كارثة اقتصادية تواجهها تركيا، ولكن في النهاية، لا يستطيع أي ممن يتوجه لهم أردوغان الآن، تحديد نتيجة الانتخابات التركية، لأن مواطنيها هم الذين سوف يحددونها.. وحتى الآن، يبدو أنهم غير مقتنعين بأن أردوغان قادر على تقديم غدٍ أفضل.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.

[email protected]