جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

حاجتنا إلى الوعى بتاريخنا

بين فترة وأخرى تظهر مواقف تلح علينا فى ضرورة الوعى بشكل عام، والوعى بتاريخنا بشكل خاص.. يبدو الأمر من بعيد وكأنه رفاهية فى ضوء الأزمات الاقتصادية وسعى الجميع المستمر لما نسميه «أكل العيش».. لكن الحقيقة أن الأمر ليس رفاهية.. فالوعى بالذات والتاريخ هو أساس النهضة.. والنهضة تضمن لنا حل مشاكلنا الاقتصادية وتوفر لنا «العيش» الذى هو حق للجميع ولا يعيبنا جميعًا أن نسعى وراءه ونطالب به.. أحد مظاهر اضطراب الوعى فى تاريخنا هو علاقتنا بالغرب على المستوى الحضارى لا على المستوى السياسى.. بين حين وآخر يظهر اضطراب فى وعينا بهذه العلاقة واختلاط بين الوطنى والدينى وبين ما هو اعتزاز بالكرامة وبين ما هو تعصب أعمى.. وبين ما هو رافد وطنى غذاه رجال مثل عرابى والنديم ومصطفى كامل وجمال عبدالناصر وبين ما هو رافد تكفيرى متعصب غذاه الأفغانى ورشيد رضا وحسن البنا والظواهرى وبن لادن.. والحقيقة أن المسألة ملتبسة ومتداخلة وعميقة الجذور وأنه آن أوان الاجتهاد فى فك هذا الالتباس.. وأولى علامات هذا الاجتهاد أن نفرق بين الغرب «السياسى» وبين الغرب «الحضارى».. على المستوى السياسى أنا أرفض أى محاولة للاستقواء من الغرب أو فرض الشروط أو عدم احترام الثقافات المحلية للدول الشرقية والإسلامية أو اصطناع العملاء أو التدخل باسم حقوق الإنسان.. لكننى أعى أن هذه سياسات حكومات وشركات وتيارات فى الغرب لا تصلح مبررًا للعداء للغرب كله أو تكفيره أو التعصب ضده أو عدم الاستفادة من منجزه الحضارى.. لماذا؟ لأن الحضارة الإنسانية منذ عقود تحولت إلى «كل» واحد.. حضارة عالمية.. يسهم فى صنعها الجميع.. ويستفيد من منجزها الجميع بقدر ما تسمح به الظروف والتفاعلات.. فالصين مثلًا مختلفة مع الغرب ثقافيًا وسياسيًا.. لكنها تتعاون معه اقتصاديًا لأقصى درجة.. وكل المخترعات العربية تخرج من معامل الغرب لتنفذ فى الصين، سواء كانت أجهزة إلكترونية أو محمولًا أو سيارات كهربائية أو رقائق.. إلخ.. وهى تضيف ما لديها على كل ما تلقته من الغرب وهكذا.. إذن فأولى علامات الوعى أن ندرك أننا فى مصر لسنا أعداء للحضارة العالمية بل نحن جزء منها ما دامت تحترم تقاليدنا.. وثانى علامات الوعى أن نفرق بين الخصوصية الحضارية وبين التعصب والانغلاق وكراهية الآخر المختلف لمجرد أنه مختلف.. وهى بضاعة باعها لنا الإخوان والإرهابيون ومدعو التسلف وأعضاء الجماعات الدينية والمتمولون بأموال الغير فلم تزدنا إلا بوارًا وتخلفًا وانفصالًا عن العالم ومعاداة للعلم.. وهى كلها أمور تنعكس على رغيف العيش الذى نطلبه جميعًا ولن يتحقق إلا عبر مكان لائق فى العالم عبر الإنتاج والتصدير والسياحة والتجارة.. إلخ.

إن أولى علامات هذا التصالح أن نعيد تقييم تاريخنا وكتابته من جديد وأن نتخلص من تأثيرات عناصر الإخوان المسلمين فى الثقافة والإعلام والدولة المصرية وهى موجودة منذ الخمسينيات لا منذ السبعينيات فقط، كما يظن البعض وهى قد خلطت للأسف بين العداء للغرب كسياسة استعمارية وبين العداء للغرب كحضارة.. وبين الاثنين فارق كبير.. هذا الخلط موجود فى معالجة كثير من كتب التاريخ ومسلسلات الدراما ومقالات الكتاب للحملة الفرنسية على مصر «١٧٩٧-١٨٠١» كأول احتكاك بالغرب بعد قرون من الظلام العثمانى.. فقد جاء نابليون بالمدفع.. ولكنه جاء أيضًا بالعلم وبالمطبعة وبفريق عظيم من العلماء ألفوا كتاب وصف مصر وفكوا رموز الحضارة الفرعونية.. وقد تسببت الصدمة التى أحدثتها الحملة فى وعى المصريين بضرورة أن يختاروا حكامهم فكانت هذه بداية النهضة على يد محمد على باشا التركى الذى أحب مصر وأصبح مصريًا وأفادها كما لم يفدها الكثير من أبنائها وجند فلاحيها وهدد بهم عرش السلطان العثمانى.. من النقاط التى تحتاج إلى إعادة قراءة منا أيضًا موقفنا من محاولة التحديث الجسورة التى قادها الخديو إسماعيل بن إبراهيم باشا وهو مهندس درس الهندسة فى باريس وحلم أن تصبح مصر قطعة من أوروبا وفتح البلاد أمام الخبرات الأجنبية والمثقفين الشوام المضطهدين فصار لدينا مسرح وصحافة وأوبرا وميادين وشوارع وترع وقناطر وقناة سويس أيضًا نستفيد منها حتى الآن.. لقد أحدثت حالة الانفتاح هذه نوعًا من الصدمة الحضارية والمقاومة نتج عنها بروز أصوات مثل جمال الدين الأفغانى وهو شخصية إشكالية وغامضة لأن كلامه يحتمل التأويل.. فهو فى أحد أوجهه يدعو إلى النهضة وفى الوجه الآخر يدعو إلى التعصب وفى أحد أوجهه يدعو إلى الثورة وفى الوجه الآخر يدعو إلى التكفير والاغتيال وهو المظلة التى خرجت منها تيارات كثيرة منها تيار الإسلام السياسى والتكفير.. وهكذا شاع فى تاريخنا بعد ثورة يوليو وصف كل الأجانب فى مصر بأنهم مغامرون ومرابون ومستغلون.. إلخ وهذا تعميم لا يجوز.. فمن بين هؤلاء الأجانب من أسسوا أعظم الصناعات وأهم الحرف ومنهم من أسسوا أحياء كاملة مثل مصر الجديدة والمعادى ومنهم من صادقوا المصريين ودافعوا عن حقهم فى تقرير المصير مثل المحامى الإنجليزى «بلنت» الذى دافع عن عرابى وأصبح صديقًا لمصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول.. بل إن تفاصيل الثورة العرابية تتحدث عن تاجر سويسرى كان يقيم فى مصر انضم للثورة العرابية ونال عقوبة السجن ونفذها بالفعل مع عرابى وصحبه! وما أقصد أن أقوله إن التعميم لا يجوز فى التاريخ.. وإننا يجب أن نتعامل مع كل حالة على حدة.. وأن نخرج بحكم نهائى.. فمن الوارد جدًا أن هناك مغامرين ومرابين استغلوا حالة الانفتاح فى ذلك الزمان فجاءوا ليثروا أو يستغلوا غيرهم.. لكن الأكيد أيضًا أنه كان هناك من أفاد واستفاد.. إلا إذا كنا نعتبر أن على الآخرين إفادتنا دون أن يستفيدوا! وبالتالى فإن ما أدعو إليه هو أن نعيد كتابة تاريخنا الذى تمت صياغته بعوامل سياسية عقب ثورة يوليو التى تأثرت بلا شك بحالة الضعف التى وصل لها آخر ملوك أسرة محمد على وبحالة الفساد التى أشاعها فى البلاد ومواجهتها لإنجلترا كدولة استعمار كان يجب أن ترحل وفق التغيرات الدولية.. وأقول إن المتطرفين والإرهابيين استغلوا حالة العداء الموجودة فى مناهجنا وإعلامنا هذه فزادوا عليها وضخموها وأكسبوها مظهرًا دينيًا متعصبًا وتكفيريًا أيضًا.. والضرر الواقع علينا كشعب أننا لا نريد أن نتقدم حتى لا نصبح مثل الغرب «الكافر» الذى نكرهه.. ونظن أن التقدم مختلط بكل الممارسات التى نسبت إلى الإنسان الغربى فنكره التقدم.. ويقنعنا علماؤنا أننا فى الجنة وهم فى النار.. فننتظر الجنة.. ويقنعنا دعاة التسلف أن لهم الدنيا ولنا الآخرة.. فلا نعمل ونبقى فى انتظار الآخرة.. والنتيجة هى «زمش» أو «زى ما أنت شايف» على رأى عمنا محمود السعدنى، رحمه الله.. والحل هو أن نعيد كتابة تاريخنا ووعينا به.. لأن رغيف العيش يبدأ من الوعى.. ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.