جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

يوميات سائقة أجرة

فى ميدان المساحة بالدقى حيث كانت الساعة تقترب من التاسعة مساءً.. عندما شرعت فى طلب سيارة أجرة عبر إحدى الشركات العالمية التى تعمل فى هذا المجال، ولاحظت أن الكابتن سيدة، ونظرًا لأن هذا لا يحدث كثيرًا فكنت أنتظرها بشغف، حيث سبق أن صادفت كابتن سيدة ولكنها كانت منذ سنوات، وهذه هى المرة الثانية، وأذكر فى المرة الأولى أنها كانت فتاة شابة.. جميلة وراقية تستقل سيارة سوداء فارهة، ولكن لانشغالى بمكالمة طوال الطريق لم أتحدث معها كثيرًا، ولكنى علمت منها أنها موظفة فى شركة سياحة وتعمل هذا العمل الإضافى لأن نفقاتها كثيرة.. ولكنى هذه المرة قررت ألا أنشغل بشىء سوى هذه السيدة القادمة بعد قليل.

جاءت السيارة وكانت الكابتن سيدة فى أواخر الأربعينيات تقريبًا وترتدى ملابس رياضية وكابًا على رأسها وشعرها ينسدل من تحته، وتستقل سيارة صغيرة وعادية ولكنها نظيفة جدًا، وقبل أن أنطق بكلمة قالت لى وهى تضحك: «الحمد لله إن الزبون ست مش راجل»، سألتها: لماذا؟ أجابت بأنها تعرضت لموقف صعب فى نفس المكان الذى ركبت معها منه وقالت: «أنا اتعقدت من هذا المكان، حيث إننى منذ فترة جاء لى طلب توصيلة ووافقت على الرحلة لأنى قريبة من ميدان المساحة وأثناء ساعات العمل، وركب بجانبى رجل وأول ما شافنى قالى: إيه ده ست؟، إيه التهريج ده، لو سمحتى الغى الطلب، فقلت له: لا أستطيع، لأن الشركة ستعاقبنى ماديًا وتقييمى سينخفض، حضرتك قم بالإلغاء فرفض، وخرج من السيارة وبدأ صوته يرتفع وقال: لو لم تقومى بالإلغاء سأطلب الشرطة، إزاى يبعتوا ست أنا هعمل شكوى فى الشركة، قلت له: أنا اسمى وصورتى المفترض ظهروا لك عند إجراء الطلب، فقال: ماخدتش بالى وعمرى ما أخدت بالى مين جاى، لأن المفروض ييجى راجل، وتعصب وبدأ يخبط على السيارة بعنف شديد، الناس جاءت وطلبوا منه يتركنى أرحل، وبعد دوشة كبيرة مشيت».

سألتها: منذ متى وأنتِ فى هذا العمل؟ ولماذا اخترتِه رغم صعوبته؟ فقالت إنها تعمل منذ ثلاث سنوات، حيث إنها أرملة ولديها ابنة فى المرحلة الإعدادية، وكان زوجها موظفًا فى شركة قطاع خاص ومريضًا بالقلب وتوفى أثناء إجراء عملية، وهذه السيارة هى كل ورثها هى وابنتها منه، وأضافت أنها تخرجت فى كلية الآداب قسم وثائق ومكتبات، واشتغلت فى شركات ومكاتب كثيرة قبل وفاة زوجها ولكنها لم تستقر فى عمل، فقررت بعد وفاته أن تستغل هذه السيارة وتعمل عليها، خاصة أن هذا العمل يوفر لها مصاريف بيتها وابنتها وأن تحديد وقت وساعات العمل فى يديها، فهى تعمل وقت ما تحب غير ملتزمة بتوقيت يحدده لها غيرها، وهو ما يتيح لها فرصة أكبر فى الاهتمام بابنتها التى أصبحت بمثابة أب وأم بالنسبة لها.

سألتها عن مواقف أخرى صعبة تعرضت لها أثناء عملها هذا، ردت سريعًا: «ده يوم»، وحكت أنها ذهبت لطلب توصيلة فى الجيزة، وأول ما ركب رجل بجانبها قال: «يا نهار أسود»، قالت له: «سودت النهار ليه يا باشا؟» قال: أنا شوفت اسمك وصورتك بالكاب ده وافتكرتك راجل يحمل هذا الاسم، مثل رجال اسمهم عصمت ورضا وأمل، الصورة صغيرة ولم أتخيل أنك امرأة كنت لغيت الطلب على طول، ثم سألنى بسخرية: «بتعرفى تسوقى؟» قلت له: من زمان بسوق، قال: هى الستات بتعرف تعمل حاجة، ثم قلت له أتحرك يا أستاذ ولا تحب تلغى؟ قالى: أنا دكتور مش أستاذ اتحركى، وظل مترقبًا طوال الرحلة وهو يقول من حين إلى آخر: «حاسبى، استنى، بصى فى المراية» لدرجة أننى توترت بسبب خوفه الشديد. 

وعن موقف سخيف آخر تعرضت له قالت الكابتن: كان فى المهندسين عندما ركب معى رجل كبير فى السن وقال: «إيه ده هم بيبعتوا ستات ليه؟» ثم أجرى اتصالًا بشخص آخر عنفه بشدة لأنه هو الذى قام بعمل طلب التوصيلة له كما فهمت، فقلت له: أتحرك أم لا؟، فقال: لا طبعًا، الغى الطلب، فرفضت وقلت له السبب، فقال: يعنى أنا اللى أتحمل الغرامة، وبعدين أنا مدفعش فيكى جنيه، ورغم أنى تعودت على مواجهة هذه المواقف بهدوء وصبر، فإننى فى هذه المرة اتعصبت وقلت له: «هو حضرتك بتشترينى ولا بتبعنى علشان تقولى كدا»، فانفعل الرجل وتعصب ورفض الخروج من سيارتى إلا بعد أن أقوم أنا بالإلغاء، فقلت له: «أقسم بالله لو لم تخرج حالًا سأتحرك على الوجهة المحددة فى الطلب»، فخرج وأغلق الباب خلفه بعنف شديد لدرجة أنى شعرت بأن الزجاج سينكسر.

سألتها: هذه مواقف غضب لكن هل سبق وتعرضتِ للتحرش؟، ضحكت وقالت مرة ثانية: «طبعًا» وأضافت: «كان رجلًا أوصلته لعنوان فى مدينة نصر، وفوجئت به يقول لى بعد انتهاء الرحلة، اطلعى معايا وسوف أعطيكى ضعفى الأجرة هذه»، فقلت له: «الأفضل أن تظل أنت معايا وأطلع بيك على القسم»، فترك الأجرة ونزل، ورغم أن قيادتى هادئة فإننى قُدت بسرعة كبيرة وعصبية لأننى فعلًا شعرت بالإهانة ومواقف التحرش أصعب مليون مرة من مواقف الغضب.

قلت لها إن هذه المهنة يحتكرها الرجال فى بلدنا والناس غير معتادين على رؤية سائقة، فقالت: نعم، لذلك فإن نسبة النساء فى هذا العمل قليلة بالنسبة للرجال، وأعرف زميلات تركن هذه المهنة بعد أشهر قليلة من العمل بسبب هذه المضايقات، وأضافت أنه حتى بعض الزبائن من النساء ينزعجن ويستنكرن وجود كابتن سيدة ويقُلن بصراحة: نخشى قيادة النساء، ولكن الأغلبية تشجعنى ويقُلن إنهن يشعرن بالارتياح والأمان عندما يكون السائق سيدة، وفى كل الأحوال الزبائن النساء أرحم من الرجال، على الأقل لا يتطاولن علىّ ولا يستهزئن بى، سألتها عن الجهد المبذول، قالت إنها تبذل مجهودًا كبيرًا، وفى كل يوم تشعر بألم شديد فى ظهرها وصداع مستمر من التركيز فى القيادة، وأضافت: «أنا متعودة على الشقا، المهم إن بنتى تعيش كويس وبالحلال».

قلت لها: أنت سيدة شجاعة وقوية لأنك تواجهين كل ذلك ومستمرة، فقالت: «لست قوية ولكنى مضطرة».. وأضافت: «كنت أعلم أننى سأتعرض لمضايقات وسخافات عندما قررت أن أعمل سائقة لسيارة أجرة، وفى كل يوم وبعد كل موقف صعب أقول لنفسى سأستمر رغم أنف الجميع، أنا من منطقة شعبية وأعرف معنى المعافرة، وأنا بعافر علشان بنتى وعلشان نفسى، علشان اللقمة الحلال».

تركتها وأنا فى شدة الإعجاب والفخر بهذه السيدة، ورغم أنها لا ترى نفسها قوية بل مضطرة فإننى وجدتها شجاعة ومثابرة ومقاتلة، إن صح القول، فهى تتحدى أسوأ الظروف، تتعرض كل يوم لتجاوزات ومضايقات متكررة، لإهانات وتعنيفات، ولكنها تستمر وتعافر كما قالت، كما أننى وجدتها سائقة محترفة وكفئًا، بل إن قيادتها أفضل من رجال كثيرين، فهى سيدة متزنة وغير متهورة، وعلى الرغم من أن الدولة تبذل مجهودًا كبيرًا لتمكين المرأة والدفاع عن حقوقها فى كل المجالات، فإن عقليات وتصورات بعض الناس تحتاج سنوات طويلة كما يبدو حتى تتغير، فنظرة المجتمع للسيدات محلك سر منذ زمن قديم حتى فى أوساط المتعلمين والمثقفين، فالبعض لا يرى أن النساء يصلحن لعمل أى شىء غير الطبخ فى المنزل، مع أن المرأة تقود دولًا وحكومات وتستطيع إنجاز أى عمل مهما كان صعبًا.