جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مذكرات د. هيكل.. الوجه الآخر لسعد زغلول

يعتبر الدكتور محمد حسين هيكل، واحدًا من النخبة المثقفة التى تفتحت فى مصر قبيل ثورة ١٩، فهو الأديب الروائى الرائد صاحب «زينب»، أول رواية مصرية، وهو الحاصل على درجة الدكتوراه من السوربون فى القانون، ولم يبلغ الثلاثين من عمره، وأحد أقطاب حزب «الأحرار الدستوريين» حزب الأرستقراطية المصرية من كبار الملاك الأعيان، وهو رئيس تحرير جريدة «السياسة» لسان حزب الأحرار الدستوريين، وجريدته الأدبية الأسبوعية.

كل هذا لم يشفع للدكتور هيكل عند زعيم الأمة سعد زغلول، فقد أصر سعد على أن يختار هيكل باشا بين خيارين أحلاهما مُرٌ، أول المُرين أن يتقبل هيكل باشا أن يتجرع مرارة الذل كما سيرد بعد قليل، والثانى أن يسجن بناء على حكم قضائى لا يملك أحد أن يمنعه سوى تنازل سعد باشا عن القضية فى محكمة الجنايات! والواقعة كتبها د. محمد حسين هيكل فى كتابه الرائع «مذكراتى فى السياسة المصرية» التى صدرت عن دار المعارف فى ثلاثة أجزاء.

الواقعة الكاشفة عن طبع سعد باشا الغضوب، وعن لدده فى الخصومة، وانتفاء التسامح لديه عند المقدرة، تعود إلى عام ١٩٢٣، بعد أن وضعت ثورة ١٩ أوزارها، وبعد أن سالت دماء المصريين الذكية على مذبح الوطنية، تلك الثورة العظيمة، ولم تقتصر على القاهرة والمدن الكبرى فحسب، لكنها شملت القطر كله، ولم تستمر ١٨ يومًا مثل انتفاضة ٢٥ يناير، لكنها امتدت ثلاث سنوات كاملة، تم خلالها نفى سعد زغلول والوفد المصاحب له مرتين، أولاهما إلى جزيرة سيشيل، والثانية إلى جبل طارق، وتحت الضغط الشعبى الرهيب- انظر إلى ثلاثية نجيب محفوظ- اضطر الإنجليز للتراجع عن صلفهم الكولونيالى، فأفرجوا عنه ورفاقه، لكن إنجلترا تمكنت بمراوغات ساستها المعروفة من التلاعب بأمانى الشعب المصرى، وأعلنت عما عرف بتصريح ٢٨ فبراير، وقد منحت مصر استقلالًا زائفًا، فبقيت قوات الاحتلال كما هى، ونالت مصر استقلالًا زائفًا، يغير لقب رأس السلطة فى مصر من «السلطان فؤاد» ليصبح لقبه «الملك فؤاد»، وإذا عدنا إلى عامى ٢٠ و٢١ سنجد أن الوفد، الذى يفاوض الإنجليز والمقيم فى باريس، تعرض للانقسام الشديد، جناح راديكالى من سعد وصحبه وخلفه جماهير الشعب الثائرة، وجناح معتدل على رأسه «عدلى يكن» وخلفه السراى والإنجليز وكبار الملاك.

عاد الجميع إلى مصر، شكّل كل جناح حزبًا سياسيًا يعكس وجهة نظر قياداته، سعد باشا على رأس حزب الوفد، وعدلى يكن الذى أسس مع المعتدلين حزب «الأحرار الدستوريين». 

وكلف الملك فؤاد رئيس الوزراء عبدالخالق ثروت، بتكوين لجنة لكتابة الدستور، وترأسها حسين رشدى باشا، وكان الدكتور هيكل ضمن اللجنة، ورفض سعد باشا اللجنة، واعتبرها الوفديون «رجعية» وأطلق عليها سعد باشا «لجنة الأشقياء». وفى ٣٠ أكتوبر انعقدت الجمعية العمومية الأولى لحزب الأحرار الدستوريين، وألقى عدلى باشا رئيس الحزب خطابًا كتبه أحمد لطفى السيد، يتضمن سياسة الحزب ونشره هيكل رئيس تحرير جريدة السياسة التى تصدر عن الحزب، ويصف هيكل خطاب عدلى يكن بأنه «قطعة رفيعة من الأدب السياسى»، وبناء على تدخل الملك فؤاد والسفارة البريطانية تم إدخال تعديلات على الدستور للانتقاص من حرية الشعب وتغليظ  قبضة القصر والإنجليز على حساب القوى الشعبية، الخلاصة تم تفريغ منجزات ثورة ١٩ من محتواها، وأقال الملك- وفقًا للدستور- حكومة ثروت، وأجريت انتخابات، وانهمك الوفد فى الانتخابات، وتصف لنا كتب التاريخ ومذكرات الكتاب والساسة كيف استقبل المصريون سعد عند عودته من منفاه فى جبل طارق.

وأجريت الانتخابات وفقًا لقواعد دستور ٢٣، واكتسح الوفد الانتخابات، فنال ١٩٥ مقعدًا، والمعارضة كلها لم تحصل إلا على ١٩ مقعدًا. وذهل هيكل من الانتخابات، فقد كان يظن فوز رجال الأحرار الدستوريين نظرًا لأنهم رجال كفاءات لا شك فيهم، ويتعجب د. هيكل كيف أن رجلًا مهمًا مثل إسماعيل صدقى يسقط أمام محامٍ شاب مغمور مثل نجيب الغرابلى، وأن قاضيًا فقيرًا مثل مصطفى النحاس يُسقط رجلًا ذا عصبية وماضٍ فى العمل السياسى مثل «على المنزلاوى». ولا عجب فقد تجاوز سعد بشهرته وحب الناس له مرتبة الزعيم، إلى مرتبة تدانى مرتبة الأنبياء والرسل، فقد تناقلت الروايات بأن الأجنة فى بطون أمهاتها تهتف له، وأن اسمه وجد مكتوبًا على ورق الأشجار، ووقف عالم أزهرى، وهو الشيخ القاياتى، يقول «إن الشرك بالله ولا الشرك بسعد»، وارتفعت الصيحات أن «الاحتلال على يد سعد خير من الاستقلال على يد عدلى»، والحقيقة أن سعد نال حب الشعب ذلك الحب الأسطورى، لأنه كان ضحية الاحتلال البريطانى الذى نفاه إلى سيشيل ثم إلى جبل طارق، وكان سعد شيخًا فانيًا، فأضفى عليه الاضطهاد والنفى ما يضفيه الاستشهاد والتعذيب على الرجال والنساء من هالات سحرية، تجعلهم عند عامة الناس كائنات أسطورية تفوق طاقات البشر، وهذا ما يحدث للمطاردين والمستشهدين دائمًا.

نجح الوفد بأغلبية ساحقة وكان الأحرار الدستوريون يأملون فى أن يشكلوا أغلبية معارضة، فلم يحصلوا إلا على أقلية ضئيلة، كانوا- والكلام ما زال للدكتور هيكل- يأملون ألا يشتد سعد زغلول معهم ومع أنصارهم، لكن سعد اشتد عليهم وأعلن عن أنه سيشكل حكومة «زغلولية لحمًا ودمًا»! فندب حزب الأحرار الدستوريين منهم من هو الأقرب إلى قلب سعد ليراجعوه فى قراره هذا، فأبى سعد واستكبر، وادعى أنه ممثل الأمة، وقال «إذا أراد سعد أرادت الأمة»، وإن «البرلمان حظيرة الأمة، فله أن يُدخل هذه الحظيرة من يشاء، وأن يقصى عنها من يشاء». وحملت جريدة السياسة على الحكومة حملات ضارية، وفى ١٩ نوفمبر عقد اجتماع مجلس إدارة الحزب وبعد انتهاء الاجتماع خرج العضوان حسن عبدالرازق وزميله إسماعيل ذهنى فتلقيا رصاصات إرهابية قتلتهما وهما على أبواب المقر وفر الجناة، وأغلب الظن أن القاتلين من التنظيم السرى للوفد، واشتدت حملة «السياسة» على الوفد، وكانت سياسة الوفد بها الكثير من المآخذ، وازداد توزيع «السياسة»، وطلب سعد من الوفديين أن يقاطعوا «السياسة» إلا أن التوزيع ازداد، ومن مآخذ جريدة «السياسة» على حكومة الوفد خطاب سعد فى افتتاح الدورة البرلمانية، فبعد أن هاجم دستور ٢٣ ووصفه بالرجعى وأن اللجنة التى كتبته أسماها لجنة الأشقياء، فى خطاب الافتتاح وصف الدستور نفسه بأنه «دستور وضع على أحدث المبادئ العصرية»، وهاجمت «السياسة» سعد لأنه تهرب من «الاستقلال» ومن مسألة «السودان» وقال عنهما «الأمانى القومية» ورفع سعد المكافأة الشهرية للنواب الوفديين إلى خمسين جنيهًا فى الشهر، فسمى حزب الوفد بحزب «الستمائة» فضاق الوفديون ذرعًا بهذه المعارضة، ونظمت جماهير الوفد من المظاهرات الغاضبة التى راحت تعتدى على مقرات ومطابع المعارضة وتروعهم وتضربهم وتحرق مقارهم. وقدمت الحكومة الزغلولية هيكل ومحررى «السياسة» للمحاكمة، واستُدعى هيكل للنيابة وكان مريضًا مرضًا شديدًا بالكلى ويتألم منها، فطلب تأجيل التحقيق يومين حتى يشفى، لكن وكيل النيابة الوفدى خدع هيكل وقال إن التحقيق لن يستغرق إلا زمنًا قصيرًا، وفى الصباح مثل هيكل للتحقيق واستمر التحقيق خمس ساعات، نتج عنها تراكم الصديد فى الكليتين ورقد بعدها هيكل مريضًا لفترة طويلة، وأراد هيكل بعد الشفاء أن يسافر إلى لبنان للنقاهة والاستجمام، فطلب الإذن بالسفر فرد سعد «كيف يسافر ويستجم وهو مقدم إلى المحاكمة فى خمسة اتهامات؟»، فسأل هيكل فقالوا له إن سعد والحكومة ليس من حقهما منعه من السفر، فسافر هيكل وعاد، وأشفق والد زوجة هيكل عليه من الحبس، فقال لسعد «ولماذا هذا الانتقام؟» فرد سعد: «انتقام وأنا أبلغ النيابة كأضعف فرد من النساء والرجال».

وألح صهر هيكل فقال سعد إنه مستعد للتنازل إذا اعتذر هيكل عن اتهامه لسعد بالتحيز لأحد المرشحين فى أسيوط، وبعد إلحاح وافق هيكل على اقتراح صهره، فكتب أن «إنكار سعد يكفى لنفى الاتهام»، لكن سعد رفض ذلك الاعتذار واعتبره غير كافٍ وقال: إن هيكل يريد أن يضحك على ذقنه، فأُسقط فى يد هيكل، لأنه سيمثل أمام محكمة الجنايات، وألح صهر هيكل عليه فى تقديم تكذيب أوفى وأوضح، فذهب هيكل إلى أصدقائه آل عبدالرازق فى منزلهم فى عابدين وطرح عليهم الموقف، فقال له محمود باشا عبدالرازق، «لك أن تعتذر كما تشاء، ولكن عليك بعدها أن تعتزل السياسة والصحافة والعمل العام». فكبر على د. هيكل تلك النهاية فقوى من عزيمته، وعقدت المحاكمة وغصت القاعة بالحضور، وقدم توفيق دوس مرافعة بليغة، فقبلت المحكمة بالطعن، ونقضت الحكم وفرح الدستوريون بالحكم فرحة كبيرة، وقد كانت المحاكمة منعقدة برئاسة أحمد طلعت باشا، فبقى سعد محنقًا عليه، وفى عام ١٩٢٦ تولى سعد مجلس النواب، وتعرض المجلس لمرتب أحمد طلعت، وكان يزيد على المرتب القانونى بمائة جنيه فى السنة، فخطب سعد الغضوب بوجوب تخفيض المائة جنيه.