جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

إبراهيم عبدالقادر المازنى و«فاتح الأقفال»

فى كتاب بديع بعنوان «عصر ورجال» للمجاهد الكبير والأديب العظيم فتحى رضوان، الذى يتناول فيه سيرة الكاتب الكبير إبراهيم عبدالقادر المازنى، يتناول فتحى رضوان واقعة مدهشة تتعلق بالمازنى، وتعود الواقعة إلى عام ١٩٣٢، فى تلك الأيام كان المازنى من كبار الكُتّاب ويكتب فى الصحف والمجلات الحزبية والمستقلة، ونشر مسرحية بعنوان «غريزة المرأة» وكان المازنى مشتبكًا- آنذاك- فى معارك أدبية حامية، وأشهرها معركته متضامنًا مع العقاد ضد أمير الشعراء شوقى بك، وتناولت أقلام خصوم المازنى مسرحيته واتهمته بالسطو عليها من كاتب إنجليزى، فى ذلك الوقت كان فتحى رضوان يرأس تحرير مجلة أسبوعية باسم «الصرخة»، وتلقى فتحى رضوان مقالة كتبها المازنى بعنوان «بائع الأقفال»، لينشرها رضوان فى مجلة الصرخة، يتحدث فيها المازنى عن شخص ما شغوف بأن يتعرف على الأجزاء المغلقة فى نفوس الناس، والمشاهير منهم بشكل خاص ويطلق عليه «فاتح الأقفال»، وتستمر مقالة المازنى على نحو غامض، تصف ذلك الشخص بأن له خطين مختلفين يكتب بهما، وتنتهى المقالة الغامضة التى لا يفهم منها القارئ ماذا يريد المازنى. وينشر فتحى رضوان المقالة للكاتب الكبير الذى يحبه ويحترمه، وبعد أيام قليلة يجد فتحى رضوان رجلًا شبه ريفى يُدعى عبدالحميد رضا، يقدم له نفسه ومجموعة من الأوراق، وبعد قراءة الأوراق يكتشف فتحى رضوان أن عبدالحميد رضا شخص غريب الأطوار وأنه مارس على المازنى لعبة عجيبة، فقد ذهب عبدالحميد إلى المازنى وأبلغه بأنه تابع لامرأة من علية القوم اسمها «فاخرة» هانم، وأنها أرسلت له هذا الخطاب، ويقرأ المازنى الخطاب فيعلم أن فاخرة هانم بعثت له بذلك الخطاب العاطفى الرقيق، والحقيقة أنه لم تكن هناك امرأة ولا فاخرة ولا هانم، كل الموضوع أن ذلك الشخص العجيب المدعو عبدالحميد رضا، قرر أن يعبث بالمازنى، فكتب له الخطاب، وبدأت سلسلة مراسلات عاطفية بين فاخرة هانم والكاتب المازنى، ولم تكن الأوراق التى قدمها عبدالحميد رضا لفتحى رضوان سوى المراسلات التى دارت بين «فاخرة هانم» المتخيلة، وكاتبنا الكبير الموهوب الرقيق إبراهيم المازنى.

يحكى لنا فتحى رضوان بقلمه البديع قصة المازنى وفاخرة هانم وصانع الأقفال عبدالحميد رضا بقلمه، ويبدأ بالخطاب الأول الذى وصل إلى المازنى، تخبره باسمها وحبها الجم للأدب ذلك الحب الذى امتلك تلابيب قلبها، وأنها معجبة للغاية بأدبه السامى وثقافته الرفيعة، «فقد قرأت روايتك (غريزة المرأة) فوجدتها آية فى الجمال، ومن العجيب أننى بدأت فى كتابة رواية تتناول نفس موضوع روايتك، ولعلك تأذن أن أبعث لك تابعى ليأخذ بعض نسخ من كتبك، آنس بها ملكة الأدب الذى أتعشقه، وأبعث لك بإعجابى بك، ذلك الإعجاب الذى ملك على نفسى، وأخذ بتلابيب قلبى، وقد يكون خيرًا أن نتعرف جسديًا كما تعرفنا أدبيًا».

ويرد المازنى الذى كان يسكن على عتبات المقابر فى صحراء الإمام الشافعى، بالقلم الرصاص يعبر فيها عن شديد اعتزازه وفرحته الغامرة برسالتها الرقيقة ومعرفته بها، ويعتذر عن عدم رده عليها بقلم رصاص، ذلك لأنه مريض ولأنه ليس لديه حبر، ويستجديها أن تطلعه على روايتها، يرد عليها فى رسالة ويبعث مع الرد نسخًا من كتبه لم تكن فى بيته، يحمل عبدالحميد رد فاخرة هانم على رسالة المازنى وتعليقها على هديته من مؤلفاته، وتعبر فاخرة فى الرد عن امتنانها وسعادتها البالغة بكتبه، التى تذكرها بشكسبير وروائعه، وطبعه الهادئ الحكيم فى معالجة الحياة الإنسانية، لا يثور وإن كانت الثورة فى فكرته، وأنها تتمنى أن تقابله وتسعد بلقياه. وأدارت الرسالة العاطفية رأس المازنى، فقد تملقت الرسالة كبرياءه حين قارنته بشكسبير، وشعر بأنه على أبواب مغامرة عاطفية كبرى، ولك أن نتخيل وقع هذا عام ٣٢، فهى امرأة تجاوزت الحدود البالية التى كانت راسخة آنذاك، ورد المازنى على ذلك الخطاب برسالة يمكن أن نلخصها فى كلمتين وردتا فى رده وهما «أنا ضِعت» وطلبت منه «هل من الممكن أن أكون ملهمتك؟». رد عليها المازنى «هل سألتينى هل تحب أن أكون لك وحيًا؟ سلى النحل، هل يحب أن يشتار عسله من أكمام الزهر. وفى رسالة من الرسائل يقول المازنى إنه لديه عقيدة راسخة وطيدة أنه ما من امرأة فى الدنيا يمكن أن تقع فى حب عبدالقادر المازنى، ولا بد أن نذكر أن المازنى أصيب بحادث خلع فى مفصل رجله، وحينما عولجت الحادثة بالجراحة قصرت ساق من الساقين عن الثانية، مما نتج عنه عرج لازمه طيلة حياته. 

أدار الغرام الوهمى رأس كاتبنا الرقيق، وأيقن عبدالحميد رضا أن المازنى أصبح فريسة لا حول لها، فانتهز فرصة خلو مكتب المازنى منه، فأسرع ومعه صورة لامرأة جميلة مما تباع فى المكتبات الأجنبية لممثلات ووضعها فى مظروف ومعها خطاب منها قائلة إنها جاءت منذ قليل لتراه فلم تجده، فأين ذهب؟ هل ذهب ليسكر؟. وجن جنون المازنى لما رأى أن حبيبته امرأة على قدر هائل من الجمال، وأنها جاءت تسعى إليه وكانت فى متناول يده، فكتب لها كلمات تقطر لوعة: «يا فاخرة.. يا فاخرة.. يا فاخرة أنتِ مسئولة عنى، مسئولة أمام الله وضميرك عنى، عن مصيرى وعن جنونى وعن التياعى وخبلى، فماذا تنوين أن تصنعى بىَّ.. لست أسألك شيئًا سوى الرحمة، إلا الترفق بفؤاد مصدوع ومهجة مكلومة وكبد جريحة».

يستمر المدعو عبدالحميد فى التنكيل بالكاتب الرقيق، فدعاه لزيارة فاخرة فى قصرها فى الريف، وصدق المازنى وركبا القطار سويًا، وأشار على قصر وسط الحقول وادعى أنه قصر فاخرة وأمها، ولم يصعب على عبدالحميد- كالعادة- انتحال عذر كى لا تتم المقابلة، وتألم المازنى كالعادة، لكنه لم يشك فى هذا العبث، فلم يوضع له حد إلا عندما قفزت فاخرة من المقابلة إلى الزواج من المازنى، فقد طلبت منه فى ردها أن يتقدم للزواج منها وأن يطلق زوجته أم أولاده، واختلق عبدالحميد كذبة جديدة مفادها أن والدة فاخرة أصيلة هانم التركية ابنة مدحت باشا بطل الدستور العثمانى قد أقلقتها الرسائل المتبادلة بين ابنتها فاخرة والمازنى، وأنها ترى أن نهاية المراسلات، الزواج.

يستيقظ الأب داخل المازنى، فيرفض رفضًا حزينًا، وقد رأى نفسه أنانيًا يبنى سعادته على أشلاء أطفاله، فبعث لها بالرفض، وتحول العبث إلى فاجعة بكل ما تحمله الكلمة من عبوس وألم، فرجل فى الأربعين يرى نفسه أمام شابة فى العشرين جميلة وغنية، وهى تسعى إليه، وتعرض نفسها عليه، وتدعوه للزواج منها فيرفض ويرد عليها قائلًا: إلى من أتركهم؟ وما ذنبهم؟ ويتذكر فى هذا الموقف الأليم فقره وفقرهم، وأنه يحاول إسعادهم فلا يستطيع ويعجز عن ذلك. ويعلق فتحى رضوان على كلام المازنى فى رفض الزواج، ويعتبر أن «المازنى يبدو فى هذا كله كأنبل وأطيب إنسان».

ويقترح عبدالحميد نشر تلك الرسائل فى كتاب، فيهاتف فتحى رضوان المازنى، وما أن يقترح عليه مسألة النشر، فما كاد فتحى رضوان يبدأ أول حرف فى الاقتراح حتى أدرك المازنى الغرض من المكالمة، حتى انفجر غاضبًا وهو يقول مهددًا «مفيش غير النيابة، حاكلم النائب العمومى.. دلوقتى حالًا».