جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

بالمناسبة المرأة مش ملزمة

عشنا فى سنوات عجاف تحت وطأة من غيبات الجب، يحكمها أبوية مطلقة من الرجال الذين لديهم السلطة للحديث والإفتاء حتى فى أدق شئون النساء، متجاهلين أصوات الفقيهات القلة حينذاك، وكانت سمة تلك السنوات خطابًا مبنيًا على إلزام النساء بكل صغيرة وكبيرة مجتمعيًا، إلزامهن بكل شئون المنزل وطاعة الزوج فى أى أمر حتى وإن كانت قطيعة أهلها التى لا تجوز، بل وإلزامهن بخدمة أهلة أيضًا.
ولم يكن الإلزام هنا مجرد طرح تستطيع المرأة فيه اختيار ما ترغب أو نبذ ما لا تطيق بل كان أشبه بالفريضة والأمر الإلهى وبوابة العبور للجنة، بل ووصل الأمر بهم بإلقاء كل أخطاء الرجال على أكتاف النساء فى كل أمر، سواء كان الرجل زوجًا أو حتى عابر سبيل، المهم أن المرأة هى الملزمة والمسئولة دومًا وأبدًا، وأن جميع ما يذكر هى حقوق للرجل لا يجوز التهاون فيها فى مقابل كسوتها ونفقتها ولم نسمع حينها أى صرخات أو اشمئزاز حتى من تلك الصيغة، ولم يحدثنا أحد حينها عن فضل المودة والحب والاحترام والمشاركة فى العلاقة الزوجية، ولم يسخر أحد من كم الإلزام الذى قذف فى جعبة المرأة وحدها، أو شعر للحظة بأن هذا يهدم الأسر.
ولم يلتفت أحد لقيمة ألفة وعمار البيوت ورفض الندية والحديث بالحق والمستحق بين الزوجين، ولم يستنكر أحد كثرة الحديث الملزم للسيدات بأعمال فى ظل بيوت بنيت واستمرت على شقاء أجساد النساء دون حتى شكر أو تقدير معنوي، بحجة أن هذا ليس فضلًا بل هو فرض على المرأة تجاه بيتها.

 ودعونى أزيد من البيت شعرًا بأن هذا المجتمع الذى يشاركنا اليوم حديثًا رائعًا عن المشاركة وعدم التدخل فى شئون الزوجين هو نفسه من كان يلقى أعباء المنزل والرعاية للزوجة إن مرضت على أمها أو أحد أفراد أسرتها، لأن الزوج منشغل مستخدمًا نفس الأدلة الفقهية ومتناسيًا السنة النبوية بالخير مع الزوجة، أو مستخدمها كحجة فى مواقف أخرى، بل وكان ذلك المجتمع أيضًا هو من يُعرض بكل رجل يشارك فى أى عمل منزلى بجانب زوجته، وينزع رجولته عنه وتحقير المحيطين له، وإقحام النصائح ليرتدع، أو نبذه ليعود لناموس الرجولة المزعومة.
إلا أنه علت أصوات تحاول إحداث التوازن الذى اختل لسنوات، خاصة مع تغير المسار الاجتماعى والاقتصادى للمجتمع ومشاركة المرأة اقتصاديا بالمنزل، بجانب كل الأعمال المنزلية مع اكتفاء الرجل بالعمل الخارجى، الأمر الذى جعل الزواج لا سعادة فيه فتحول لعمل شاق للنساء لا ينقطع ليلًا نهارًا دون إجازة أو حق فى شكوى، ولا يوجد إنسان على وجه الأرض مهما كانت عاطفته يطيق هذا دون توقف أو مقابل وهو فى غاية السعادة والراحة، لمجرد إقناعه بأن هذا الشقاء فطرة خلق لأجلها.. وتكريما منا لهذا الفضل سنلتف حولكم يومًا كل عام بهدايا من نواقص المنزل وبضع كلمات ثم نتركهن للاستئناف مدعين تقديسًا للأمومة وتبجيلًا للدور البطولى للنساء اللاتى لا نتركهن وشأنهن دون وصاية، أو وصم لأدوارهن البيولوجية ولاختلافاتهن الجسدية.
نعم. المرأة بيولوجيًا مؤهلة لأدوار الحمل والرضاع ولكنها ليست بنفس الكيفية والكفاءة عندهن جميعًا، فهناك من يؤدى حملها لمضاعفات مريرة، وأخرى تغادر الحياة أو تهزل وهى تلد، أو من تخر قواها فى الإرضاع عن استكمال الرعاية، ومن يضر لبنها وليدها إن لم تع طبيعة جسدها، وأخرى تضطر لاختيار فطام جسدى لصغيرها لحمايته من الأمراض الاجتماعية حال التصاقه بها وإن كانت لا تعمل، تلك الفروق التى قد تعرض الأمهات لضربها فى نعش أمومتها وتقليل دورها كأنثى وكراعية دون احترام لوعى النساء بأجسادهن وحياتهن وقدرتهن على الشقاء والعطاء، والأمر ذاته صدقًا يحدث مع الرجال فى وصم الفروق البيولوجية والجسدية بينهم، وهذا فى حد ذاته أمر لا يحترم الفطرة والطبيعة الكونية.
وها نحن اليوم فى ظل مرحلة فكرية تحترم الفروق وتحاول التجديد بما يوافق الأحوال الزمنية مع تصحيح لما استند إلى أدلة مزعومة أو خطاب ثقافى بصبغة دينية وهوى لقائلها فقط، فتهاوت فروض لم تكن بفروض، وظهرت حقوق كانت حبيسة ليعى الفرد ومن ثم يقرر ويختار ويبنى بيوتا تناسب ساكنيها، وتشبههم وتريحهم وأسرًا سوية تتكاتف فى العمل على الاستمرار دون أن تعبر على جسد وابتزاز عاطفة فرد واحد فيها طوال العمر دون هوادة.
والعجيب فى الأمر أنه مع كل طرح يخاطب النساء أو يحاول فرض اختيار بإحسان وإن كان شرعيا تتعالى أصوات تدعى صدق نواياها فى احترام الرباط المقدس بين الرجل والمرأة، وخصوصيته الذى يجب أن يحيد عن خطاب الندية والتنازع عن الحقوق وأن المودة والمحبة والشراكة فوق كل شىء، وأصوات أخرى لا تعرف شَكلًا للحوار عن أى فضل سوى السخرية والاستهانة بأوضاع النساء، وأصوات من عالم آخر تكفر بالشرع من يحاول أن يبحث فى الشرع عن أى شىء يخالف الثقافة التى سادت لراحة الذكور وإرضائهم بحقوق وضعية تقسم الأدوار دون إنصاف.
وبالنظر لما سبق أجد أننا فى أزمة أكبر من الحديث عن واجبات وإلزامات، فنحن أمام مجتمع يزعجه مجرد الوعى بالشىء، مجرد وضع الحقوق فى منظومة محكمة بعيدًا عن التحريف وحمايتها من خلل موازين القوى، مجتمع يا سادة قد يفسد الاستدلال من أجل استعراض زائف، وسفسطة لا تسمن ولا تغنى من جوع، لا يعترف بوضع معايير قياس واضحة لنزن عليها، أو آراء تحتكم لمبادئ واضحة، وربما يكون أغلبه ضعيفًا فى علوم الحساب والاقتصاد فلا يعى قيمة وثمن ما يبذل داخل الأسر من قبل النساء، أو افتقرت تربية أغلبه لفهم المشاعر وتقدير الآخرين وتثمين تطوعهم.
والأسوأ هى تلك الصورة الذهنية للحياة الزوجية التى يحاول البعض بمغالطات قد تبدو منطقية أن يجعل من علانية الطرح والفكر سببًا فى خرابها، ولكننى وبكل شجاعة أقر بأن البيوت التى تخشى هى بالفعل متهاوية، فالشراكة المتينة لا تختلج رعبًا لكل حديث لأنها تعلم أنها تسير بأمواج من السكينة والمودة لا برياح السلطة والإكراه التى يستميت الضعاف فى الحفاظ على وجودها، لأن دونها لن يشعروا بقيمة لوجودهم وهذا هو مربط الفرس، فلا شريك يذكر شريكه بعقود الملكية وبنودها إلا أن تجاوز شريكه كل حدود الود والغفران والتراضى ودهس كل محاولات الإصلاح.
ودعونا نحاول الوقوف على أرضية مشتركة، فإن كنا جميعا نريد مصلحة الأسرة واستدامتها فلنكن قوامين بالقسط ولو على أنفسنا لنحيا وينجو من حولنا، فلسنا من نسكن الأرض وحدنا فلنحترم الفروق بيننا كأفراد وكتجارب ولنعلم أن منا قومًا لن يستأنفوا الحياة بآدمية بعد سنوات من التراضى والعطاء دون مرجعية سليمة نستند لها أن تنازعنا وإن لم نحتج لها قط، فالشراكة قاعدتها الحقوق واستمرارها بمزيج التراضى والتفاهم والاحترام والتغافل والعدالة، فلسنا ملزمين بأى شىء لم تنص عليه معتقداتنا سوى ما تقره دساتير مشاعرنا الشخصية التى تحدد أفكارنا وتهذب سلوكنا تجاه بعضنا البعض، ملزمين بما اخترناه سويًا ويما يلائم أولويات تجربتنا الأسرية بعيدًا عن هوى المجتمع وفرضيات لا تلائمنا، وإن انتهكت تلك الحرمة الخاصة فلنجد قياساًيعيدنا لصوابنا لتستديم رحلتنا بالحب وعلى الحق.