هل أحسنَّا استثمار كنوزنا الأثرية؟
في زمن نسعى فيه جادين للاستثمار الأمثل لكل ما مّن الله به على مصر من خيرات وعطايا وهبات ميّزت وطننا عن غيره من دول العالم صار السؤال المنطقي: وماذا عن كنوزنا الأثرية؟ هل أحسنَّا استثمارها؟ والإجابة المنطقية قد تكون بسؤال آخر يطرحه البعض ردًا على السؤال السابق، إذ يسألون: وماذا عسانا أن نفعل أكثر من عرض تلك الآثار في متاحف متخصصة جيدة العرض ومؤمّنة تأمينًا يسمح بالحفاظ على تلك الكنوز؟
والإجابة التي أعرضها في متن هذا المقال استنتجتها من بنات أفكار عدد غير قليل من علماء الآثار وخبراء السياحة على ضوء نقاشات وحوارات أجريتها مع عدد كبير منهم وقراءات لكتاباتهم ومتابعات لرؤاهم المعروضة عبر وسائل الإعلام، إذ يرون- في جزء من إجاباتهم وأشاركهم رؤيتهم هذه- أن العرض المتحفي الذي تهتم به مصر وتتوسع فيه وفي تطوير أدواته بإنشاء متاحف متنوعة في مناطق كثيرة من البلاد هو آلية موضوعية تكفل للأثر حماية أمنية تضمن الحفاظ عليه، وتوفر له ظروف عرض تبرزه وتيسر وجود مرشدين يقدّرون ذلك الكنز ويمتلكون الخبرات التي تمكّنهم من شرح قيمته للزائرين من المواطنين أو السياح الوافدين.
وبالفعل مكنتني الظروف أن أقوم بزيارة عدد من تلك المتاحف التي تؤكد جهد الدولة وحرصها على الحفاظ على كنوز مصر الأثرية: كمتحف الحضارة بالفسطاط ومتحف شرم الشيخ ومتحف النوبة بأسوان، فضلًا عن ذلك الحدث المنتظر افتتاحه وهو المتحف الكبير على مقربة من أهرمات الجيزة.
علمًا بأن المتاحف ليست وحدها هي السبيل لاستثمار كنوز مصر الأثرية، فهناك المعارض التي تنظمها وزارة الآثار لمقتنيات أثرية مصرية، إذ تمتد لبعض الأيام وأحيانًا الشهور في عدد من الدول الأوروبية وغيرها، ويرى البعض- بما فيهم متخصصون- أن منح بعض الدول العربية والأجنبية حق عرض قطع أثرية مصرية لفترات أطول قد تصل لسنوات اقتراح يوفر عملات أجنبية كثيرة تسمح لنا باستثمار أمثل لتلك الآثار ويعد أحد أوجه الدعاية لغيرها من الكنوز التي لا يمكن السماح بخروجها من الوطن لسبب أو لآخر.
مبرر آخر لحماس أصحاب تلك الرؤية هو ما سيحققه الأمر من تحفيز زوار تلك القطع القليلة للقدوم إلى مصر في جولات سياحية لمشاهدة كنوز الآثار التي رأوا مجرد نماذج لها تزور بلادهم، إذ يرى أصحاب هذا الرأي أن مخازن الآثار مكتظة بقطع كثيرة جدًا يصعب عرضها متحفيًا فلا ضير- من وجهة نظرهم- أن نروج لمعروضات متاحفنا الوطنية بقطع غير مستغلة بالفعل لدينا.
مجال آخر للاستفادة من كنوزنا الأثرية أراه في إنتاج أفلام درامية وأخرى وثائقية حول قصص من حضارة مصر القديمة والتي تحظى بعشق وولع الملايين في معظم دول العالم ممن تعلقوا بقصص الفراعنة وألغاز حضارتهم التي لا تكاد تنفد.
وفي هذا السبيل يمكننا استثمار وجود شخصيات آثارية كبيرة لها قبول دولي وتحظى محاضراتها في هذا الشأن باهتمام عالمي واسع النطاق، بالطبع أقصد بهذا د. زاهي حواس، و إن لم يكن وحده من بين علماء الآثار الذين يحظون بقبول وكاريزما وشهرة عالمية تضمن لهذا التوجه نجاحًا ورواجًا كبيرين.
وأظن أن إنتاج برامج تليفزيونية يقدمها أو يشارك فيها د. حواس وغيره من علماء الآثار والسياحة كالدكاترة محمد إبراهيم، ممدوح الدماطي، مصطفى وزيري، خالد العناني، حسين عبدالبصير، عبدالرحيم ريحان، مجدي شاكر، بسام الشمّاع، وغيرهم- ستحقق انتشارًا عالميًا فضلًا عن المداخيل المالية المربحة.
وأضيف على كل ما سبق ضرورة البحث عن قصص المولعين بالآثار واختيار الطريقة المثلى لعرض كل منها سواء في فيلم درامي أو برنامج وثائقي، فقصة مثل حكاية "أم سيتي" أو دوروثي إيدي، تحتمل عملًا دراميًا عالميًا يحقق انتشارًا كبيرًا في الخارج وما يطرحه البعض مؤخرًا حول تسريب هوارد كارتر لبعض كنوز مقبرة توت عنخ آمون يستأهل برامج وثائقية أو استقصائية تتحرى ما يروى عن القطع التي هرّبها بعد أن سرقها من المقبرة قبل وضع الحكومة المصرية الحراسة المشددة عليها عقب اكتشافها بمدة كانت كفيلة بمنحه فرصة تسريب عشرات القطع من آثار توت عنخ آمون حسبما ذكرت "الجارديان" البريطانية.
كما أن مجرد طرح السؤال، أين برديات توت عنخ آمون الخاصة بالخروج الكبير؟ في تحقيق تليفزيوني يضمن جذب انتباه مزيد من عشاق الملك المصري الشاب ومن ثم الترويج السياحي للأثر.
أحداث أخرى كثيرة تستحق مزيدًا من الاهتمام وبمجرد ترويجها ستسلط الضوء على كنوزنا الآثارية مثل مرور 100 عام على اكتشاف مقبرة توت و200 عام على فك رموز اللغة المصرية القديمة من خلال حجر رشيد، زد على هذا ما يمكن أن يطرحه خبراء الدعاية من اقتراحات يمكنهم استلهامها إذا تم تنظيم ورش عمل مشتركة تجمعهم بخبراء الآثار.
كما أقترح على "الشركة المتحدة " إنتاج سلسلة برامج وثائقية عن المضروبين بعشق الآثار من الراحلين، أمثال الدكاترة أحمد فخري، سليم حسن، أحمد قدري، عبدالعزيز صالح، علي رضوان، جاب الله علي جاب الله، كمال الملاخ، وغيرهم وغيرهم من أبرز علماء وعشاق الآثار المصريين والأجانب- وما يمكن أن يحققه من مردود مالي عند تسويقه للفضائيات الوثائقية العالمية.
والأهم من كل هذا هو أن تخفض وزارة الآثار من رسوم التصوير في المزارات والمناطق الأثرية وخصوصًا لصناع السينما من المصريين والأجانب، فما ستدره تلك الخطوة من أرباح أهم بكثير مما يعود على خزينة الدولة حاليًا من رسوم أراها قليلة مهما زادت عند مقارنتها بما ستحققه تلك الأفلام والبرامج العالمية من مكاسب على المدى البعيد.