جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

انبذوا الطائفية

الطائفية والمناخ الطائفى والفرز الطائفى كلها عبارات فرضت نفسها على المناخ العام المصرى ارتباطًا بالعلاقة الإسلامية المسيحية عبر التاريخ، وكان ذلك ولا يزال نتيجة لاستغلال هذه العلاقة استغلالًا سلبيًا لصالح قوى استعمارية متعددة الأسماء وفى كل الأزمان، وكان من مصلحة تلك القوى تكريس الفرقة والتفرقة فى هذه العلاقة. 

كما أن هذه العلاقة وتلك الطائفية كانت نتاج أنظمة حكم لم تكن تعرف ما يسمى بالنظم السياسية أو الدستور والقانون أو أى حقوق مدنية أو إنسانية، ولكن كان الحاكم يحكم باسم وبأمر الله وتحت مظلة الدين، مما رسخ وكرّس وأسس لنظام طائفى ولفرقة وطنية ولقسمة طائفية. 

فكان المسيحيون المصريون مجرد طائفة يمثلها رئيس الكنيسة مثل طوائف النجارين والحدادين... إلخ، التى يمثلها رئيس كل طائفة. وكانت علاقة الطائفة المسيحية تحدد سلبًا أو إيجابًا نتيجة لرغبة الحاكم ومزاجه الشخصى. هنا ومما لا شك فيه فقد كانت هناك ممارسات واضطهادات للطائفة التى لم تكن تحسب ضمن رعايا الحاكم غير فى الدرجات المتأخرة.

وهذا الواقع وتلك الممارسات كانت قد تجذرت فى الضمير الجمعى المسيحى فأحدثت شرخًا نفسيًا وواقعًا طائفيًا وإحساسًا بالمظلومية. 

ففى ظل هذا ونتيجة له ترسخت قناعة عامة لدى المسيحيين أنهم تابعون للكنيسة ولممثلهم رئيس الطائفة غير انتماء الأغلبية العددية للحاكم.

وامتد هذا الوضع لتعامل الحاكم أيًا كان نوعه ونظامه مع المسيحيين، وكأنهم تابعون للكنيسة وليس للدولة، واستملحت الكنيسة والمسيحيون هذا تعاملًا مع الواقع. ولكن كانت قد تغيرت فى النهر مياه كثيرة وكثيرة فى الاتجاه الصحيح فى السير فى اتجاه المواطنة، حتى لو لم يكن هذا المسمى قد ظهر، وكان هذا وسيستمر نتيجة التطورات السياسية والإنسانية والحقوقية على مستوى العالم الذى نحن وغيرنا جزء منه. والتفصيل ليس مجاله الآن، ولكن توصيفًا للواقع المعيش فإن هناك متغيرات كثيرة على أرض الواقع اقتربت من تحقيق المواطنة لكل المصريين حتى ولو بعد حين، اتساقًا مع التطور الطبيعى فى التغييرات السياسية المتراكمة.

ولكن «وآه من كلمة ولكن هذه» ما زال هناك من هم نتاج لذلك المناخ الطائفى من هنا وهنا. فهم لا يجدون ذواتهم المريضة وأدوارهم المتخيلة فى غير ادعاء المظلومية وتفسير الأمور على أرضية المؤامرة والإصرار على التعامل على أرضية الطائفة وليس المواطنة، متصورين أنهم يدافعون عن الدين وعن المسيحيين.

فى مقابل وجود قطاع من المتشددين السلفيين الذين ما زالوا يعتبرون الآخر ذمى الحقوق ليس له غير دفع الجزية... إلخ. ومن حسن الحظ ونتيجة للمتغيرات المواطنية التى نشهدها فى إطار هذه القضية نجد أن هؤلاء قلة لا تمثل الوطن ولا سماحة الدين من بعيد أو من قريب. 

نقول هذا بمناسبة حادثة حريق كنيسة «أبوسيفين» بإمبابة التى راح ضحيتها أكثر من أربعين شخصًا. فبالرغم من ذلك المشهد الوطنى الرائع الذى شاهدناه من جميع الشعب المصرى بمشاركتهم فى إخماد الحريق أو إخلاء الضحايا والمصابين، وكان ذلك على أرضية وطنية وإنسانية حقيقية، نجد البعض من المتاجرين ومستملحى المظلومية ومن يريدون ويتخيلون أدوارًا ليست لهم ولا مكان لها الآن، حيث إن الواقع الآن غير الواقع قبل عشرات السنين. 

وجدنا هؤلاء يدعون تمثيل الأقباط ويصفون الحادثة وكأنها ثأر طائفى بين الأقباط وغير الأقباط الذين يؤشرون بأنهم فعلوا ذلك قصدًا. 

هناك من يشكك فى التحقيقات وفى النتائج التى تم الوصول إليها. هناك من يكرر كلامًا ينطبق على أى حادثة حريق بتأخر وصول المطافى، وكأن المطافى تأخرت لأن الحريق فى كنيسة وحتى يخلص الحريق عليها، ناسين أن المنطقة عشوائية والشوارع ضيقة وأزمة المرور التى تسيطر على كل مصر لا تترك الفرصة للإسراع. ومع ذلك وعظمته فقد كان الشعب المصرى كله بديلًا لكل هذا تضامنًا وتلاحمًا حكوميًا وشعبيًا ولكن الغرض مرض. 

هنا لا بد أن نستفيد من دروس هذه الحادثة. نعم الكنيسة هى منزل نتيجة لحالة التضييق التى كانت فى بناء الكنائس. نعم هناك كنائس ومساجد عشوائية لا علاقة لها بأى حماية مدنية، وهذا خطر كل الخطر على أرواح البشر. فهل يمكن أن تطبق الشروط على كل دور العبادة؟ هل يمكن بناء دور عبادة فى أماكن ملائمة ومتوافقة مع عدد السكان فى مناطق بعيدًا عن العشوائية؟ خاصة أنه الآن هناك قانون بناء الكنائس قد حل مشكلة متراكمة منذ مئات السنين. 

هل لدعاة الطائفية ومرتزقيها والمتاجرين بها أن يكفوا ويدركوا أن الأمور الآن غير الأمور سابقًا، مما يلزم إعادة التفكير والتحليل على أرضية وطنية بعيدًا عن تلك الأرضية الطائفية التى لا تحل مشاكل ولا تعطى حقوقًا. فالحقوق والمواطنة لا تكون ولا تتحقق بغير مشاركة سياسية فى كل مناحى الحياة وعلى أرضية وطنية. فالجميع أبناء الوطن، الوطن واحد والآمال واحدة والمصير واحد.. حمى الله شعب مصر العظيم.