جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

عن الحجاوى وحاجتنا إليه

قبل سبع سنوات كتبت أطالب وزارة الثقافة بالاحتفال بمئوية زكريا الحجاوى، احتفالًا يليق به، وكنت أعتقد أن إحياء ذكرى المؤسسين قد يلهم الأجيال الجديدة لمواصلة المسيرة، فى الأيام الفائتة ظهر الرجل مرة أخرى أمامى، كأنه يطالبنى بالتذكير به، ففى حديث عام مع الشاعر الكبير شوقى حجاب جاءت سيرة الحجاوى وانطلق يتحدث عنه وعن شخصيته وعن منجزه وعن صداقته له.

فى اليوم التالى حدثنى الصديق شعبان يوسف عن عثوره على أوراق الرجل وراح يستعرض جوانب أخرى فى شخصية الرجل كنت أجهلها، السيرة الذاتية لشخص ما تفشل فى تقديمه كما يجب، لأن هناك أرواحًا كبيرة استمدت نفوذها من محبتها للبشر والوطن والخير والجمال والمستقبل.

زكريا الحجاوى من هؤلاء، لأنه كان معنيًا بالدفاع عن صوت مصر الحقيقى فى الريف، وعمل على انتخاب الأصوات التى تغنى بعيدًا عن الصالونات والأسطوانات، الأصوات التى اختزلت خبرة المصريين مع الصبر ومقاومة القهر، ولد الحجاوى سنة ١٩١٥ فى المطرية دقهلية، وسط أغانى الصيادين وحوريات البحر والحكايات القديمة المتجددة، درس فى بورسعيد بمدرسة الفنون والصناعات، وأصبح زعيمًا طلابيًا، بعد التخرج عمل فى وظيفة بدد فيها عهدته من البطاطين، لأن هناك بشرًا بردانين، فُصل بالطبع، واتجه الى مهنة الصحافة، لم يشغل نفسه بما يشغل الصحفيون من بحث عن الأخبار والمصادر التى تمنح النفوذ والشهرة، ولكنه راح يكتب تحقيقات عن الحرف والصناعات البيئية والمشغولات اليدوية، ويناشد المسئولين الحفاظ عليها وإنشاء مراكز لها.

واشتغل فى الإذاعة، يجمع الحكايات الشعبية ومواويل الفلاحين وفنون الغجر وفنون الساقية والشادوف من القرى ويقدمها فى أعمال درامية ينتظرها الناس وتخلو الشوارع منهم فى توقيت إذاعتها، مثل أيوب وكيد النسا وملاعيب شيحة وأنس الوجود.

كان موسوعة فلكلورية، بعد ثورة يوليو اكتشف عبدالناصر أن البلاد التى يزورها تقدم فنونها المحلية، فكلف الأستاذ يحيى حقى شخصيًا بإنشاء مصلحة الفنون، الذى استعان بدوره بصديقه الخبير زكريا الحجاوى، وكان أول عمل هو «يا ليل يا عين» الذى استلهمه من حلاق سكندرى يدعى ياقوت.

واستعان فيه بنعيمة عاكف بنت هذا الخيال الصادق وبمحمود رضا الذى تعلم من السوفيت أصول الرقص عندما عمل معهم بشركة السويس للبترول، واستعان أيضًا بموهبتين عظيمتين فى الموسيقى وهما عبدالحليم نويرة وعلى إسماعيل، هذا غير المغنيين الشعبيين وعازفى السمسمية والربابة والكولة والأرغول والسلامية والإيقاعات، وصاحبة الصوت الشعبى الندى خضرة محمد خضر، التى كانت تسرح بصوتها على البيوت لتكسب قوت يومها.. وتزوجها.

كان الحجاوى صديقًا قديمًا للرئيس السادات «وحكى لى شوقى حجاب عن لقاء جمعه بالسادات نهاية الستينيات فى أحد مقاهى بورسعيد عن طريق زكريا»، وهو الذى هرّبه أيام كان متهمًا فى قضية مقتل أمين عثمان، وتحمل عبء التستر عليه، وهو صاحب اختيار اسم جريدة «الجمهورية» التى أُنشئت تحت رئاسة السادات لتكون لسان حال الثورة.

ومع هذا تم فصله قبل ظهور العدد الأول، وفيما بعد تنكر له الجميع، وبعد رحيله سنة ١٩٧٥ تذكره الرئيس بعد أن آلمه خبر رحيله، فأصدر قرارًا بعمل جنازة عسكرية له، واعترف بفضل شيخ المداحين عليه، وبعد أربع سنوات زار المطرية ليصدر قرارًا بتحويل البيت الذى كان يعيش فيه زكريا إلى متحف، ولم ينبهه أحد إلى أن البيت ليس ملكًا له، عندما ضاقت السبل بالفنان الكبير وانهيار منزله فى الجيزة سافر مرغمًا إلى قطر.

كان يكره المكياج سواء فى المسرح أو الحياة، كان يستخدم كل الحيل وهو يطارد عازفًا موهوبًا على الربابة أو الأرغول أو مطربًا أو مطربة شعبية صوتها جميل، يحاول معهم بكل الطرق حتى يوافقوا على الحضور إلى «مصر» والعمل معه، كان قاصًا مبدعًا اعتبره يوسف إدريس رائدًا للقصة القصيرة، ورسامًا موسيقيًا وملحنًا وسينمائيًا وشاعرًا وباحثًا ومؤرخًا وتحتاج قائمة إنجازاته فى كل مجال إلى مساحة أكبر.

كل الذين اقتربوا منه حكوا عن رجل نبيل وموهوب يحب الناس ولا يريد شيئًا من أحد، الأستاذ رجاء النقاش حكى «كنت أسكن فى حارة (مهدى) الصغيرة الضيقة فى شبرا، ولم يكن زكريا الحجاوى يعرف عنوان بيتى ولكنه كان يعرف اسم الشارع، وكنا فى أواخر سنة ١٩٥٣ وكان يعرف أننى أعانى مع أسرتى من محنة صعبة، وكان الحل الوحيد هو أن أترك الجامعة، ذات صباح فوجئت بزكريا الحجاوى فى بيتى سألته كيف وصلت إلى البيت»، فعرف أنه طرق كل أبواب شقق الشارع حتى وصل إليه، الحجاوى معنى كبير فى الفن والحياة وينبغى على الدولة أن ترد له بعضًا من حقه.. لأننا فى حاجة إلى أمثاله لإنقاذ الوجدان من هجمات الغزاة.

الرجل كان يعلم أن التراث الشعبى قادر على الحفاظ على الخصوصية المصرية الفريدة فى مواجهة ثقافة الرمال التى غطت على قلوبنا بعد رحيله منتصف السبعينيات، نحن فى حاجة إلى جمع تراثه وتراث أمثاله، وإتاحته مدعومًا للناس، لأننا فى حاجة إلى العودة إلى بلادنا.