جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

كتابة الذات والتخييل فى رواية «اتبع قلبك»

هل يكتب الإنسان نفسه، أى يكتب تجربته وخبراته؟ أم يكتب ما كان يود أن يعيش؟ ويسجل ما كان يود أن يستمع إليه؟ 

فى روايتها شديدة الرهافة «اتبع قلبك»، تقدم الروائية الإيطالية سوزانا تامارا، خطابًا سرديًا مكونًا من مجموعة رسائل تكتبها جدة لحفيدتها الوحيدة بعد سفرها لاستكمال تعليمها فى أمريكا، عاشت الحفيدة مع الجدة بعد وفاة الابنة، وفى هذه الرسائل تستعيد الجدة ذكرياتها، وتقدم للحفيدة الجانب الذى لا تعرفه عن الجدة؛ لعل فى هذا الاسترجاع ما يخفف من حدة غضب الحفيدة التى تغيرت رؤيتها لجدتها وللعالم مع مرورها بمرحلة المراهقة، فتطلب منها أن تترفق وأن تمنح نفسها فرصة رؤية العالم من الداخل «إذا نظرنا من الخارج سيبدو لنا كثير من نماذج الحياة خاطئة، غير معقولة، مجنونة. فما دام كان الإنسان يقف بعيدًا، وينظر من الخارج، من السهل أن يسىء فهم الأشخاص وعلاقاتهم. ولكن عند النظر من الداخل، فقط من خلال السير ثلاثة أشهر مرتديًا حذاءهم يمكنه أن يفهم أسبابهم.. مشاعرهم.. والشىء الذى يدفع الإنسان إلى أن يتصرف بطريقة ما بدلًا من طريقة أخرى، إن التفهم يولد من التواضع وليس من غرور المعرفة». 

وتدرك الجدة جيدًا أن هذه الخبرة والقدرة على تفهم الآخرين ليست وليدة الحظ أو الصدفة، «إن حل المشاكل يأتى من خبرة كل الأيام، من النظر إلى الأشياء كما هى على حقيقتها وليس- كما يظن البعض- كما كان يجب أن تكون».

وتكتشف الجدة فى محاولتها التقرب من حفيدتها وإزالة أو تخفيف حدة الصراع بين الأجيال «أن الطفولة والشيخوخة متشابهتان، ففى كلتا الحالتين، ولأسباب متنوعة، يكون المرء أعزل لم يشارك بعد- أو انتهى من المشاركة- فى الحياة العملية، وهذا يسمح له بأن يعيش بنوع من المشاعر، دون أى ترتيب، حياة تلقائية». 

تحكى الجدة كل أحداث حياتها، تحكى دون أن تخفى أى شىء، تروى وهى تدرك أن هناك أشياء تسبب الآلام العظيمة بمجرد التفكير فيها. ثم إن مجرد التفوه بها يسبب ألمًا أكبر.

وتقدم الجدة للحفيدة خلاصة تجربتها فى الحياة وتنصحها بأن تتبع قلبها فى أشد اللحظات حيرة عندما يكون عليها أن تختار بين أكثر من طريق: «عندما تُفتح أمامك طرق كثيرة ولا تعرفين أى الطرق تتخذين، لا تسيرى فى أحدها مصادفة، بل اجلسى وانتظرى. تنفسى بالعمق الواثق الذى به تنفست يوم جئت إلى الدنيا، ولا تجعلى أى شىء يشد انتباهك، انتظرى ولتنتظرى طويلًا. توقفى فى هدوء، واستمعى لقلبك. وعندما يتحدث إليك بعد ذلك، انهضى واذهبى حيث يقودك».

صدرت رواية «اتبع قلبك» عام ١٩٩٣، حققت مبيعات حتى عام ٢٠٠٨ وصلت إلى ١٥ مليون نسخة، وتعد الرواية الإيطالية الأكثر انتشارًا فى القرن العشرين، حيث تمت ترجمتها إلى ٤٤ لغة، وقامت بترجمتها للعربية الدكتورة أمانى حبشى عام ٢٠١٤، وتحولت إلى فيلم سينمائى عام ١٩٩٦ من إخراج الإيطالية: كريستينا كومنشينى.

تعكس هذه الرواية البديعة جزءًا من تجربة الكاتبة سوزانا. فقد ولدت فى مدينة «تريستى الإيطالية عام ١٩٥٧، لأب وصفته بأنه سكير، وأم اتسمت بقسوة وبرود المشاعر، وبعد انفصال والديها، عاشت فى كنف جدتها لأمها، وقد كانت طفلة غريبة الأطوار، وتم تشخيص حالتها بإصابتها بمتلازمة «أسبرجر»، وهى المتلازمة التى يعانى منها الممثل أنتونى هوبكنز، والتى توصف بأنها أحد أطياف مرض التوحد.

وربما تكون هذه الرسائل الطويلة وهذا الحنان المتدفق من الجدة فى الرواية، هو العطية التى تمنت الكاتبة أن تتلقاها من جدتها، سواء حدث ذلك بشكل أو بآخر، فإن طفولة الكاتبة وتجاربها مع سوء فهم الآخرين لها ظلت مصدرًا خصبًا للكاتبة، فاستلهمت منها العديد من أعمالها مثل رواية: «القلب السمين»، فالشعور بالوحدة يملأ حياة بطل الرواية الطفل «مايكل» يدفعه لتكوين صداقة مع ثلاجة بيته، ما يؤدى به إلى السمنة ومتاعبها، ويتجلى الصراع بين رغبة الأم فى مساعدة طفلها فى خسارة الوزن، وعدم تقبل مايكل الأم، وهروب مايكل المستمر من معهد النحافة، فيبدأ فى خلق عالم خيالى ويدخل فى مغامرات تقوده لاكتشاف ومساعدة نفسه. 

وفى المجموعة القصصية «صوت منفرد» تركز الكاتبة الضوء على مجموعة من الشخصيات التى تعرضت لصدمات عنيفة، ما عرضها لهزات نفسية كبيرة من خلال خمس قصص هى: «الاثنين مرة أخرى»، و«حب»، و«طفولة»، و«تحت الثلج»، و«صوت منفرد». تمتلئ المجموعة بالجروح والآلام التى تكشف عن عيوبنا الإنسانية وتعريها من الداخل.

سواء كان المؤلف يكتب نفسه أو ما يتمنى أن يحدث له، فسيبقى الصدق الإنسانى ورهافة المشاعر هما الطريق الأقرب لقلب وعقل القارئ.