جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

وَهْم الأنساب.. الخطر يدق أبواب الصعيد

لسنوات طويلة عرف العرب والعالم صعيد مصر بأنه الفقر والثأر والعمالة الرخيصة فى العراق والخليج.. وعرفوا عنه أيضًا الحدة والشهامة والطيبة.

وأسهمت الدراما غير الواعية فى ترسيخ صورة ذهنية سيئة عن أهل الصعيد رغم انتماء قامات علمية وأدبية وسياسية لذلك المحيط الجغرافى المهم من قلب مصر.

ولسنوات طويلة ظلت نكت حمادة سلطان وآخرين سيفًا مسلطًا على كل من يهبط إلى القاهرة من أبناء الجنوب.. والصعيد صابر.. يقابل هذه السخرية وتلك الصورة الذهنية السافلة للمعوقين فكريًا من أصحاب الأفلام والمسلسلات بسخرية أشد وعزلة أكبر.

ولسنوات طويلة أيضًا أهملت الحكومات المتعاقبة أهل الصعيد ومدنهم وقراهم.. باستثناء سنوات قليلة من حكم الرئيس جمال عبدالناصر، وما طال أبناء تلك البلاد من بعض المصانع ومشروعات الإصلاح الزراعى وما عرف بمبنى المؤسسة.. كانت عبارة عن جمعية زراعية ومكتب تموين أو جمعية تموينية لصرف السلع ومكتب بريد ووحدة صحية.. باستثناء تلك الفترة.. ظل الصعيد معزولًا لا يفكر فيه أحد إلا قبيل الانتخابات البرلمانية.. وفيما يشبه الصفقة ظل الأمر لسنوات مقعدًا لأبناء العائلات الكبيرة مقابل تأييد حكومى مطلق وهدوء تام فى تلك البلاد البعيدة.

وحدة العائلة تلك كانت هى البديل عن الحكومة أو فى مواجهتها.. والتصرفات الفردية بالسفر للقاهرة أو مدن القنال الثلاث السويس والإسماعيلية وبورسعيد أو الإسكندرية فى هجرات عائلية متعاقبة، أو للخليج العربى- هى الحل البديل.

ومع هوجة التدين الشكلى وسيطرة التيارات المتطرفة فى ثمانينيات القرن الماضى تراجعت سطوة العائلة قليلًا، وتم تفكيك الكثير من الترابط العائلى مع طفرة اقتصادية خلفتها وفرة مالية قادمة من الخارج.. وظل الجميع بعيدين تمامًا عن الحكومة.. بمبدأ «يا نحلة لا تقرصينى.. ولا عايز منك عسل».

وبمقدار ما حمت هذه الوحدات القرابية «بيوت - عائلات- بدنة» أهل الصعيد لسنوات طويلة.. بقدر ما اختفت ظاهرة التفاخر بالأنساب والعائلات مع الطفرات الاقتصادية التى فرضتها هجرات الخليج من ناحية وأسواق العقارات والخضار والفاكهة والأسماك والجلود من ناحية أخرى، حيث سيطرت عائلات صعيدية كاملة على هذه الصناعات مثلها مثل تجارة «الماء» المعروفة بالمقاهى.. ومحلات عصير القصب.

ومع زيادة نسبة المتعلمين.. بدا الأمر وأن ذوبانًا قد حدث لفكرة العائلة ولم نعد نعانى من فكرة التفاخر والتنابز بالألقاب تلك، لكننا وخلال العامين الأخيرين رصدنا تحولًا خطيرًا نحذر منه وننبه إليه.. فمع الانتشار الهائل لصفحات السوشيال ميديا.. قررت الأجيال الجديدة البحث عما يميزها.. ومع تراجع هائل فى رصيد الثروات والأموال مع عائلات الصعيد أفرادًا وجماعات.. لم يعد من وسيلة للتفاخر إلا الانتماء إلى وظائف مميزة وهى قليلة جدًا.. أو العودة إلى فكرة التفاخر بالانتماء إلى قبيلة بعينها.. والتفاخر بالانتماء إلى عائلة ما ليس عيبًا فى حد ذاته.. المشكلة أنه تلا ذلك التحقير من باقى العائلات لصنع تميز ما.. وللأسف أسهمت هذه الصفحات فى معارك مفتعلة لم تعد هينة الآن.. ولمن يتابع سيكتشف أن كل قرية بها الآن صفحات تخص كل عائلة فيها.. وبدأ الكثيرون يبحثون فى كتب الأنساب والتكاليف والجرود القديمة.. ثم انتقل الأمر إلى العلن للتشكيك فى أنساب العائلات المنافسة.

عائلات الصعيد ومعظمها إما من الحجاز أو المغرب العربى.. هى عائلات ممتدة إلى أكثر من محافظة وهى عائلات كثيفة العدد.. ومع التغييرات الاجتماعية الهائلة التى جرت خلال المائة عام الأخيرة غاب تمامًا دور من كنا نسميه «الكبير».. وأصبح كل شاب فى الصعيد الآن «كلمته من دماغه»، ومع حالة من التهافت الفكرى والنفسى وبطالة شديدة مع تراجع العمل فى سوق العقارات والسفر للخارج.. أصبح هناك فراغ شديد لم تقم أى جهة حزبية أو مدنية بالمساهمة فى كسر حدته.

هذا الفراغ انتقل إلى هذه الصفحات لتدور معارك شرسة.. يخشى العقلاء من انتقالها من صفحات الإنترنت الافتراضية إلى أرض الواقع، وهو ما يحدث الآن بالفعل.

علوم الاجتماع ليست عبثًا.. وقد سبق أن قدم المركز القومى للبحوث الجنائية عددًا مهمًا من الدراسات عن الصعيد وناسه.. ومعظم كليات الآداب بها رسائل ماجستير ودكتوراه مهمة لم يلتفت لها «أحد.. ولم يشعر بأهميتها أحد.. الآن يبدو الأمر مهمًا وعاجلًا وضاغطًا.. وقراءة ما يحدث على صعيد مصر.. وفى بعض قرى ريف الدلتا أيضًا تحتاج إلى تدخل عاجل وحاسم.. قبل أن يستفحل الأمر ويتحول من مجرد تنابز واحتكاك لفظى على صفحات السوشيال إلى خناقات ومعارك على أرض الواقع، خاصة أن الجميع يعرف أن السلاح المرخص وغير المرخص موجود بكثافة فى الصعيد، وللأسف الشديد لا توجد سيطرة من البيوت والأهالى على شباب العائلات الذين يجيدون استخدام هذه الأسلحة.

بمعنى أوضح.. هناك مشاحنات- لا تزال فى حدود المشاحنات- يخشى أن تتطور فى ظل وجود أسلحة لا يمكن السيطرة على الشباب فى استخدامها.. ولا يمكن للداخلية وحدها أن تعمل فى هذا الملف.. فهو ملف اجتماعى بالدرجة الأولى.. وعلى عقلاء البلاد وكبارها سرعة التفكير فى حلول لملء هذا الفراغ، وإبعاد هذه النار قبل أن تلتهم البيوت وشبابها.

أبناء الصعيد من النابغين والمشاهير المقيمين فى القاهرة وغيرها ممن لهم كلمة مسموعة لدى أهاليهم فى الجنوب عليهم أيضًا أن يستفيقوا قبل أن يتحول الأمر إلى ما لا نريده ولا نرضاه.

أن نحتمى بعائلاتنا.. أن نتوحد.. أن نسعد ونفخر بالانتماء إلى عائلاتنا وقرانا ومحافظاتنا وبلدنا العزيز مصر شىء حسن وطيب، لكن أن تتحول دفة هذا الاحتماء صوب اتجاه آخر فهو أمر خطر.. اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد.