جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

السياحة والإنتاج.. والبناء الداخلى

كل فترة وأخرى أقرأ مقالات تقول إن "مستقبل مصر فى السياحة"، لست بالطبع أدعو لإهمال السياحة بمختلف أشكالها، فإذا كانت مصر تملك نسبة كبيرة من آثار العالم ولها من الشواطئ الفيروزية الساحرة المتفردة عالميًا، وإذا كانت أسعار السياحة فى مصر ما زالت رخيصة نسبيًا مقارنة بدول أخرى، وازدهارها يدر عائدًا من أساسيات عوائد الدخل القومى وقد بلغ عام 2021 أكثر من 13 مليار دولار، فكيف يمكن لأى عاقل محب للوطن أن يكون ضد السياحة أو ضد الاهتمام بها.
لكننى أرى أن تقدم الدول والحضارات ونهضة الشعوب قديمًا وحديثًا تعتمد أساسًا على "بناء الإنسان" من الداخل، هذا البناء الداخلى يصنعه البناء الخارجى وأقصد به جودة التعليم وارتقاء الثقافة والفنون والآداب والعلاج الصحى الكريم والسكن الملائم وفرص العمل المتوافقة مع التعليم والكفاءات الشخصية.
حتى الدول التى تهتم لزيادة عائداتها من السياحة تفعل ذلك حتى تنفق المزيد على بناء المواطنة والمواطن وتوفر البناء الداخلى الصلب دون أن نستفيد من السياحة أو أى شىء آخر.
وبناء الإنسان يعنى أن يدخل شريكًا أساسيًا فى مقومات النهضة الحقيقية الدائمة الراسخة لأى دولة، وأقصد الإنتاج فى كافة المجالات، الزراعة والصناعة وتشجيع كافة الحرف اليدوية النافعة والتعمير والتكنولوجيا.
الإنتاج السياحى شىء جامد ساكن موروث من الأقدمين المبدعين، لكن ماذا عن إنتاجنا الحى المتحرك من صنعنا نحن فى الحاضر؟
نتكلم دائمًا عن بناء الإنسان المصرى باعتباره ضرورة لإحداث نقلة نوعية فى العقل والمفاهيم والسلوك وتغييرًا حقيقيًا يأخذنا لدولة مدنية حديثة ناهضة.
إن حال الإنسان المصرى والإنسانة المصرية رغم قيام ثورتين أوضحت المعدن الحر الثمين للشعب المصرى، لا يسر أحدا ولا يعكس طموحاتنا ولا يدل على أن مؤسسات الدولة تأخذ قضية "بناء الإنسان" كقضية محورية وأساسية، بل إنها أكثر من ذلك.
قضية "بناء الإنسان المصرى والإنسانة المصرية" قضية حياة أو موت، قضية وجود أو لا وجود، قضية بقاء مشرف أصيل على الخريطة الإنسانية، بقاء يُلهم الآخرين ويعطيهم نموذجًا واقعيًا غير مستحيل أن القيامة ممكنة بعد الوقوع وأن النهضة ممكنة بعد الركود وأن الورود والسنابل والأزهار تطلع أحيانًا من أرض وعرة.
من هنا أناقش قضية فى صلب بناء الإنسان المصرى وهى أننا نهتم بالآثار التى صنعها الإنسان المصرى القديم أكثر من اهتمامنا بالإنسان المصرى فى الحاضر.
طوال الوقت تصدمنى المقالات التى ترسخ أن مستقبل مصر فى السياحة وأن السياحة هى طوق النجاة، كلام غير واقعى ولا أوافق عليه، أصحاب هذه الفكرة لا بد أن يقولوا لنا إذا كانت السياحة هى المستقبل فماذا سنفعل فى عدد السكان الرهيب (طفل كل عشرين ثانية)، هل يخدمون السياح الأجانب وينسون التعليم بمجالاته المختلفة؟
إن اهتمامنا بالآثار كثمرة من ثمار حضارتنا المصرية القديمة يفوق اهتمامنا بالإنسان صانع الحضارة فى الأساس.
أغلبية الناس لا يرون الحضارة إلا تلك الآثار العابرة حدود الزمان، هم بذلك "يسجنون" الحضارة فى قالب من "الحجر" أحادى الرؤية جامد.
أنا أعتقد أن الآثار بكل تفردها وعظمتها هى صدى الصوت وليس الصوت نفسه، أو هى مجرد الأصبع الذى يشير إلى القمر لكنها ليست القمر.
أو بمعنى آخر الآثار هى الجانب "الساكن" من الحضارة، أما الجانب "المتحرك" فهو عقل وقلب الإنسان الحى "هنا والآن" القادر على إحداث التغيير والإبداع، إن حضارتنا ليست "تركة" جامدة من التماثيل والمومياوات والتوابيت والمعابد والأهرامات.
لماذا ننحاز إلى حضارة "الحجر" لا حضارة "البشر" أو لنقل إن هناك اتجاهًا سلفيًا فى الفكر الحضاري كما هو موجود فى الفكر الدينى، ننشغل بحماية أنف أبوالهول أكثر من حماية الإنسان الحى الآن من الفقر والمرض والجهل، هل من العدل انفاق مبالغ طائلة على البحث عن قطعة أثرية مغمورة؟ ولا ننفق شيئًا يُذكر عن البحث عن المواهب المغمورة؟
ننفق على ترميم الآثار ولا ننفق على ترميم البيوت التى تتصدع وتقع على سكانها الآمنين، نهب سريعًا لو سُرقت عين "توت عنخ أمون" بينما لا نفعل شيئًا حين تُسرق كرامة الإنسان، يقف الناس يتأملون فى انبهار أحد التماثيل الموجودة منذ خمسة آلاف سنة ولا ينبهرون بكفاح إنسان مصرى يناطح الأقدار ويتحدى أصعب المعوقات لمجرد أن يحافظ على بقائه لا ييأس من الأزمات ولا تهزمه التحديات.
أنا أعترض على مقولة "السياحة هى مستقبل مصر" يرددها كثيرون باعتبار أن مصر تمتلك وحدها ثلث آثار العالم.
عفوًا أيتها التماثيل والمومياوات والتوابيت والمحنطات، أنتِ لست مستقبل الوطن يا كل آثارنا الجميلة والعظيمة، إن مستقبل مصر فى تنمية حقيقية وثورة ثقافية فى الإنتاج فى الزراعة وفى الصناعة وفى تخضير الصحراء وفى الطاقة المتجددة وفى الفن الراقى وفى تنوير الفكر الدينى وفى تحرير النساء من المعتقلات الذكورية.
إذا كان بناء الأهرامات عجيبة من عجائب الدنيا ولغزًا لم يُفسر حتى الآن فإن "بناء الإنسان المصرى" هو العجيبة الجديدة التى يمكن أن يفعلها الشعب المصرى بينما تحاصره عوامل التعرية القاسية وظروف مناخية غير قابلة للتنبؤ.
العقل المصرى.. الوجدان المصرى.. الإرادة المصرية.. الإبداع المصرى.
هذا هو طريق مصر الذى ينتظر مرور أول قطار كهربائى جديد الصنع للقفز إليه.

من بستان قصائدى:
تزوجت الشِعر.. على سُنة القلم ورسوله
تزوجت البحر.. على سُنة الملح والأمواج
إلى المحكمة العليا جرونى.. تبارى أعتى المحامين فى ادانتى.
وعقابى بتعدد الأزواج.