مسابقات اكتشاف الموهوبين.. هل تُحدِث حراكًا؟
تبقى الحاجة إلى اكتشاف وتقديم المواهب الجديدة فى الإبداع الأدبى ضرورة متجددة ومطلبًا مستمرًا، من أجل تجديد حيوية الحياة الأدبية وضخ دماء جديدة فى أوردة الإبداع الجمالى. ولعل المسابقات بأشكالها المختلفة هى وسيلة مهمة فى أداء هذا الغرض. تبدو المسابقات والتبارى الأدبى وسيلة لها بريقها لدى كثيرين من جمهور الأدب وصنّاعه؛ حيث روح التنافس وتفعيل آليات التحكيم للممايزة بين مستويات المبدعين من ناحية، وما يعوله الجمهور والمتلقون على هذه المسابقات والجوائز باعتبارها آليات تقييم وفرز للمواهب تمنح المبدعين صك مشروعية وختم ثقة من ناحية أخرى، فهل تُحدِث هذه المسابقات حِراكًا مؤثرًا فى الساحة الثقافية؟
بالطبع، المسابقات والجوائز، هى حوافر مشجِّعة للمبدعين والمواهب التى تخطو فى بداياتهم بدرب الإبداع. ولكن تبقى لهذه المسابقات جوانبها الإيجابية وأخرى سلبية أيضًا. ولنا أن نبدأ بمسابقات اختيار المواهب على مستوى الجامعات المصرية، فما عاينته من خلال تجربة شخصية لى أنَّ لهذه المسابقات دورًا مهمًا فى استيعاب الشباب الجامعى الموهوب فى حداثته العمرية والإبداعية وتشجيعه على الإبداع. لكن بدت لى مشكلة كبرى فى هذا الصدد تمثَّلت فى مفاهيم معظم الشباب، حول الإبداع وصياغاته وخصوصًا فى الشعر، وهم معذورون كل العذر فى ذلك، لأنهم يحصدون ثمارًا سلبية لغرس المقررات التعليمية للغة العربية التى يتوقف مفهوم الشعر ونصوصه عندها عند الشكل الذى كان عليه منذ قرن من الزمان تقريبًا، لكن المشكلة الأكبر التى لاحظتها تبدَّت فى الأساتذة الذين يحاضرون فى دورات تعليم قواعد الإبداع، «الورش»، ويحكِّمون فى مسابقات الجامعة أنَّ معظمهم قد تجمَّد معرفيًّا عند الصياغات الأدبية القديمة، كأنَّهم لم يضيفوا شيئًا يُذكَر إلى معارفهم التى حملوها عن الأدب منذ دراستهم بالمرحلة الثانوية، فهل من المعقول أن تخلو مقرراتنا التعليمية من نصوص شعرائنا العظام فى آخر سبعة عقود كأحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل؟ وهل من الطبيعى أن تتجمد معارف معظم أساتذة الأدب ومدرسيه فى الجامعات المصرية عند أحمد شوقى وحافظ إبراهيم ونثارات من أشعار الرومانسيين مثل إبراهيم ناجى وعلى محمود طه، أى عند أوائل أربعينيات القرن الماضى؟ ثمة عداء واضح للأشكال الإبداعية التى استقرت منذ سبعة عقود كشعر التفعيلة الموزون وقصيدة النثر. لكن معظم المحكمين فى هذه المسابقات يقفون فقط عند حدود الشعر العمودى ويصبح تقييم النص الإبداعى مرهونًا بقشور شكلية كاقتدار كاتبه فى التقفية أو الإتيان بمقولات أيديولوجية رنانَّة تدغدغ العواطف، وهو ما يضيق الطريق أو ربَّما يغلقه أمام أى كتابة إبداعية تواكب الحداثة الجمالية فى أن تأخذ حقها من التقدير وتنال نصيبها من العدالة التقييمية فى المسابقات الجامعية لاكتشاف المواهب، ثمة سلفية فكرية تهيمن على المؤسسات الأكاديمية تلقى بظلالها السلبية على مثل هذه المسابقات لاختيار المواهب فى الجامعات المصرية.
وإذا كانت الدولة المصرية قد التفت أخيرًا إلى تشجيع المبدع الصغير بتخصيص جائزة له من جوائز الدولة، برعاية السيدة انتصار السيسى، تبقى مقرراتنا التعليمية أكبر عائق أمام تكوين قاعدة عريضة من المبدعين فى أعمار الناشئة والحدث، بسبب رداءة مقررات النصوص وموضوعات القراءة فى المقررات الدراسية للغة العربية، ذلك لأن القائمين على وضع هذه المقررات هم موجهو اللغة العربية الذين لم يطالعوا المنجز الأدبى فى العقود السبعة الأخيرة والبعض منهم يجاملون زملاءهم باختيار نصوص لبعض موجهى اللغة العربية ضمن مقررات المادة!
ومما يبدو لى من سلبيات المسابقات الأدبية مسألة كثرة الكم المتقدِّم نسبيًّا من النصوص فى مسابقات الرواية الذى قد يمثِّل عبئًا على لجان التحكيم، فمن الطبيعى ألا يستطيع أعضاء اللجان قراءة كل النصوص المقدَّمة بالكامل، وإن كانت بدايات كل نص تشى كمؤشر أولى بمستوى صاحبه.
كذلك، تبدو مسألة «المركزية» خصوصًا للعاصمة وقليل من المدن الكبرى عاملًا مؤثرًا فى تقديم المواهب الأدبية، حيث تتركز معظم المؤسسات الثقافية ومراكز صناعة الأدب فى القاهرة وكذلك المسابقات، وهو ما يفضى إلى عزوف نسبة من الموهوبين فى الأقاليم عن المشاركة فى بعض هذه المسابقات وإن خفض التقدم الرقمى من حدة هذه المشكلة.
لكن تبقى مسألة أخرى بعد تقييم الموهبة وتقديرها: أن يُقدَّم عملها الإبداعى إلى القراء مطبوعًا فى كتاب، وهو ما تقوم به بعض المسابقات، كما يحدث فى الهيئة العامة لقصور الثقافة، وبعض المبادرات المنتشرة فى عدد من المسابقات العربية ومسابقات بعض دور النشر الخاصة، لكن هذا يجعلنى أسترجع سلسلة كانت تصدر عن المجلس الأعلى للثقافة وهى «الكتاب الأول»، لكنها تعثّرت وتوقفت، وقد كان من الممكن استثمارها بشكل إيجابى وفعَّال كأن تقوم لجان المجلس المتنوعة باختيار مواهب جديدة فى مختلف ألوان الكتابة الإبداعية والفكرية والنقدية وتقوم تلك السلسلة بنشر هذه الكتابات.