جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الحمامة البيضاء

رغم أن مولده فى أكتوبر ورحيله فى أبريل، أطل الفنان العبقرى بيكاسو «١٨٨١- ١٩٧٣» برأسه فى معظم الصحف والمواقع الإلكترونية فى الأسابيع القليلة الماضية، ورغم صدور كتاب زوجته فرانسواز جيلو الجميل «حياتى مع بيكاسو» بالعربية منذ أكثر من ربع قرن، وترك أثرًا طيبًا أيامها، فإن عددًا كبيرًا من الكتّاب أعاد اكتشافه، بحثًا عن مداخل للكتابة عن باولو الذى اختار أن يأخذ لقب بيكاسو عن أمه، لأنه فى الوثائق يحمل ٢٣ اسمًا. 

الفنان الإسبانى- الذى رسم أكثر من ١٣٠٠٠ لوحة و١٠٠٠٠٠ نقش ومطبوعة، وألّف مسرحيتين وديوانين من الشعر، والذى بيعت أرخص لوحة له بنحو ١٢٠ ألف دولار، وأغلى لوحة بمبلغ ١٤٠ مليون دولار، والذى تجاوز التسعين من عمره وعاش حياة مليئة بالمفاجآت الفنية التى غيرت شكل الفن فى القرن العشرين- لا يزال يشغل الدنيا بفنه وعلاقاته النسائية ومعاركه مع فنانى ومدارس زمنه حتى الآن، وتتصدر حكاياته مواقع التواصل كأنها حدثت بالأمس، فمثلًا راجت حكاية حلاقه الشخصى أرياس، الذى تعرف عليه فى فرنسا سنة ١٩٤٤ ونشأت بينهما صداقة عظيمة، ربما بسبب مولد الحلاق فى إسبانيا، وكان لا يتقاضى أجرًا منه، ولكن بين الحين والآخر كان يهديه بيكاسو لوحة من أعماله، وصل عددها حين مات الفنان الكبير إلى ٦٠ لوحة، حاولت المتاحف العالمية شراءها، إلا أن الرجل فضل أن يعرضها فى «متحف حلاق بيكاسو» فى مسقط رأسه فى قرية شمال مدريد، المتحف الذى أصبح مزارًا سياحيًا يقصده عشاق بيكاسو والفن بشكل عام. ويحكى أيضًا أن تاجر لوحات مشهورًا ذهب إلى بيكاسو ليتأكد أن اللوحة التى بين يديه وعليها توقيعه حقيقية، نظر بيكاسو بسرعة وقال بحسم «إنها مزيفة»، كان الرجل متأكدًا أنها تخصه، بعد فترة عاد إليه بأخرى، وكان رد الموهوب الكبير مماثلًا للرد الأول، فقال التاجر إنه شاهده وهو يرسمها وإنه متأكد أنه صاحبها، فرد بيكاسو بحسم «إنها لوحة مزيفة وأنا أحيانًا يطيب لى أن أرسم لوحات مزيفة»!، كتب بعض المهتمين بأعمال الفنان كلامًا من قبيل أن مثل هذه الإجابة السريعة المقتضبة وغير المتوقعة تمثل قمة الإبداع، فهى تعنى ضمنًا ودون الاعتراف بصراحة، أنه حتى الفنانون العظام يمكن أن يرسموا لوحات أدنى من المستوى المعروف عنهم، وأن بعض أعمالهم تعتبر فى نظرهم هم أنفسهم أعمالًا من الدرجة الثانية، ولا تعبر عن نظرة أصيلة ملهمة بحيث تبدو كما لو كان الذى رسمها شخصًا آخر يحاول أن يقلد أسلوب وطريقة الفنان الأصلى، وأن الإجابة السريعة تعنى أن بيكاسو لم يكن مقتنعًا أنها تعبر عن قدراته، لا أحد يستطيع التأكد من المغزى وراء إجابة بيكاسو الذى لن يبيع لوحة لم يقتنع بها. حمامة السلام التى أصبحت علامة بصرية يعرفها كوكب الأرض كله، لها حكاية تشير الى جانب من شخصية فناننا، كان أحد دعاة السلام قد اتفق مع بيكاسو على رسم لوحة تعبر عن السلام لتوضع كرمز فى مهرجان سلام كان سيعقد فى وقت ما بباريس، لكن باولو الذى كان دائم النسيان لوعوده لانشغاله بأشياء كثيرة ليست فنية، انغمس فى عمله حتى حان وقت التسليم، وحضر الرجل لمرسمه مطالبًا إياه باللوحة المتفق عليها مسبقًا والمدفوع ثمنها، لكنه لم يجد شيئًا، أقنعه بيكاسو لضيق الوقت أن يأخد أى لوحة أمامه وينصرف فورًا، فأبدى الرجل استياءه، لكن بيكاسو أقنعه بواحدة عبارة عن رسم لحمامة بيضاء وقال له إنها تصلح للمؤتمر، أخذها الرجل لأنه لم يكن هناك حل آخر، ومن ساعتها صارت الحمامة البيضاء رمزًا للسلام العالمى. ويحكى أيضًا أن رجلًا يدعى بيار لوجينيك، كان يعمل كهربائيًا لدى بيكاسو، وقام بتركيب جهاز إنذار له، كان يمتلك ٢٧١ عملًا عبارة عن اسكتشات ولوحات قدرت قيمتها بمبلغ ٦٠ مليون يورو، ورثة بيكاسو لم يصدقوا أن الموهوب الكبير أهداها للرجل، ولكن السلطات الفرنسية صادرت الكنز. بيكاسو الذى كان يقول إننا جميعًا نعرف أن الفن ليس الحقيقة، ولكنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة، فنه وتأثيره فى الفن الحديث كتب عنه مجلدات فى كل اللغات، والذى دفعنى للكتابة عنه هذه المرة هو الحفاوة العربية المفاجئة فى الأسابيع الأخيرة، ولأننى أيضًا من عشاق فنه وشخصيته الفريدة، فهو عنوان للموهبة الاستثنائية والعمل والمغامرة وخفة الظل، وهو الذى قال: «الإعجاب هو أن تقف خمس ساعات أمام لوحة جميلة فى المتحف، أما الحب فهو أن تقف خمس دقائق فقط وتذهب، ثم تعود لسرقتها فى الليل»!، سُئل مرة: لماذا لوحاتك غير مفهومة؟ أجاب: العالم بلا معنى.. لماذا تريدون منى أن أرسم لوحات ذات معنى؟!