جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الطرف الآخر عند تشيخوف

كتب معظم أدباء العالم القصص عما يحدث حين يقع شابان فى حب بعضهما البعض، لكن أنطون تشيخوف الوحيد الذى كتب من زاوية أخرى، أى عما يحدث حين لا يحب شابان أحدهما الآخر! كانت لديه موهبة أن يرى الأشياء والظواهر من الناحية المضادة.

وهكذا حين عاش ذلك الأديب العظيم كانت الموجة الفكرية والفلسفية والأدبية السائدة تعرية الرأسمالية وشن الهجوم على الأثرياء بصفتهم مصدر الشر كله، بهذه الرؤية كتب مكسيم جوركى، وإرسكين كالدويل، وجورج أورويل، وألدوس هكسلى، وغيرهم.

أما تشيخوف فقد التقط الطرف الآخر، الجهة الأخرى، فكتب قصة «البدين والنحيف»، و«موت موظف»، و«المغفلة»، فى الأولى يلتقى صديقا الطفولة بعد عشرين عامًا عند محطة قطار، يتعانقان، يتبادلان الحديث كرفيقى مدرسة واحدة، وخلال الحديث يكتشف أحدهما، وهو النحيف، أن صديقه أصبح موظفًا كبيرًا فى الدولة، فيبدأ النحيف، الذى ما زال موظفًا مغمورًا فقيرًا، فى تملق الآخر.

يتعجب صديقه الثرى من تحوّل لهجة ولغة صديقه، ويتأسف كثيرًا لذلك، ويفترقان. هنا يقول تشيخوف إن المأساة ليست فى الأثرياء أو الأقوياء، أو ليست فقط فى ذلك، بل إنها فى ضعف الطرف الآخر وخنوعه وخوفه.

فى قصة «موت موظف»، يعطس موظف صغير فى قفا جنرال جلس أمامه فى حفل بالأوبرا، فيعتذر للجنرال الذى يتقبل الاعتذار ويعتبر أن الموضوع انتهى، إلا أن خوف الموظف الصغير يدفعه إلى مواصلة الاعتذار والتأسف وإبداء الندم حتى يطرده الجنرال الذى يرى أن الموضوع لا يستحق كل ذلك! مرة أخرى يشير تشيخوف إلى الطرف الآخر، فلم يكن العيب فى الجنرال، الذى تقبل العطسة والاعتذار بصفتيهما من الأشياء الاعتيادية التى قد تحدث فى الحياة، المشكلة أو العيب كانت فى خوف الموظف، فى رعبه، فى جُبنه، حتى أنه يتجه إلى منزله ويرقد على سريره ويموت!

فى قصة تشيخوف الثالثة «المغفلة»، تطرق خادمة باب حجرة سيدها لتحصل على أجرها الشهرى وهو ستون روبلا، يقول لها السيد صاحب البيت إنها حطمت فنجانين ولهذا سيخصم منها ثلاثة روبلات، فتوافق مدهوشة لأنها لم تحطم أى شىء، ثم يضيف أنها لم تتنزه مع الطفل يوم الأحد ولهذا سيخصم من راتبها خمسة روبلات.

تتلجج المسكينة وتحاول أن تنفى ما قاله لكنه يؤكد لها أن كل شىء مسجل عنده، فى النهاية يمنحها عشرة روبلات من أصل ستين، فتتسلمها ودموعها فى عينيها وتكاد تنصرف، لكن السيد يستوقفها ويسألها: لماذا تقبلين بكل هذا الظلم؟ أنت تعلمين أننى خدعتك وأننى كاذب؟ لماذا أنت ضعيفة هكذا؟.

مجددًا يشير تشيخوف بعبقريته، التى لا تبارى، إلى أن المشكلة لم تكن فى صاحب البيت الثرى، بل فى ضعف الشغالة وعدم قدرتها على الدفاع عن نفسها وقبولها بالظلم البيّن.

فقط أنطون تشيخوف استطاع أن يرى أن المأساة ليست فى بطش القوة ولكن أيضًا وبالقدر نفسه فى ضعف الحق، وستظل هذه النغمة تلمع من حين لآخر فى أعمال ذلك الأديب العظيم لتطرح السؤال بقوة، ليس فقط على المستوى الاجتماعى أو السياسى، بل حتى على المستوى الذاتى لدى كل فرد، فليست المأساة فقط فى الظروف المحيطة بنا بل فى ضعفنا الشخصى، فى أننا لا نستطيع أن نهزم الكسل ولا نستطيع أن نضع خطة لحياتنا وغير قادرين على تحقيق أحلامنا. المأساة ليست فقط فى الخارج.. إنها أيضًا فى الداخل، فى الطرف الآخر.