جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الرد الصيني على وثيقة الناتو الأخيرة

هناك أغنية صينية شهيرة تحتوي على هذه الكلمات: "لأصدقائنا، لدينا نبيذ جيد. أما بالنسبة لأبناء آوى أو الذئاب، فنحن نرحب بالبنادق". اقتباس تلك الكلمات هو ما ذكرته الصين نصا كخاتمة لردها المثير والسريع، الذي صدر كي يقارع منطق المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف الناتو، الصادر قبيل القمة بأيام وجرى اعلانه خلال جلساتها. وربما القراءة من النص الصيني الأصلي؛ يعد أسلم وأقصر الطرق، لفهم ما تراه بكين الآن بعد صدور المفهوم الإستراتيجي الجديد.
لذلك فهو يبدأ بـ" في قمة مدريد 2022 الأسبوع الماضي، تبنى الناتو مفهوما استراتيجيا جديدا، زاعما أن الدول الأعضاء في الناتو ستعمل معا لمواجهة التحديات النظامية التي تطرحها الصين. بينما تخبرنا نظرة على التاريخ والواقع بقصة مختلفة، ففي السنوات الأخيرة، اتبعت بعض دول الناتو المتمسكة بعقلية الحرب الباردة ومنطق الهيمنة، سياسات التكتل واستنفدت جهودها في احتواء الصين، في سعيها لتوسيع المعايير الجغرافية للناتو تحت ذريعة مواجهة ما يسمى تحدي الصين. لكن لا يسع المرء إلا أن يتساءل، هل تشكل الصين البعيدة عشرات آلاف الأميال أي تحد للناتو، وهي منظمة "تسعى إلى تعزيز الاستقرار والرفاهية في منطقة شمال الأطلسي"؟
ثم ينتقل الرد لطرح بضعة تساؤلات؛ منها من يشن الحروب ويزيد الحشود العسكرية، ومن يتحدى الأمن العالمي ويهدد السلام العالمي؟ وتجيب هي أن الأمر واضح للجميع وعليهم أن يروها، فالحقائق تظل حقائق لا يمكن تشويهها بالتضليل. إن الأمة الصينية تحب السلام دائما، والسعي لتحقيق السلام هو جزء من حمضها النووي الثقافي، ورغم أنها واحدة من أقوى دول العالم لفترة طويلة في التاريخ، لم تستعمر الصين أو تغزو الآخرين. وأيضا على مدى السنوات السبعين الماضية منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، اتبعت الصين سياسة خارجية مستقلة، قائمة على السلام وسياسة دفاعية وطنية ذات طبيعة دفاعية. كما تتبع الصين طريق التنمية السلمية وتظل مساهما في السلام العالمي ومدافعا عن النظام الدولي.
فكما لم تبدأ الصين أبدا حربا أو غزت شبرا واحدا من أراضي دولة أخرى، فالصين لا تزال الدولة الوحيدة في العالم التي تلتزم باتباع طريق التنمية السلمية في دستورها. ولا تتدخل الصين في الشؤون الداخلية للآخرين، ولا تتدخل بدرجة أقل في الولاية القضائية طويلة المدى، أو العقوبات الأحادية الجانب أو الإكراه الاقتصادي. من أجل السعي لتحقيق العدالة والتخلص من البلطجة. ندعو حلف الناتو؛ وهي منظمة تجمع أكثر البلدان تطورا وأكثرها تحضرا، لاتخاذ نفس الموقف. ففي اليوم نفسه الذي اختبرت فيه الصين بنجاح أول قنبلة ذرية، أعلنت الحكومة سياسة "عدم الاستخدام الأول"، مما جعل الصين الدولة الوحيدة الحائزة للأسلحة النووية التي قدمت مثل هذا الالتزام الصريح. ونود دعوة الدول النووية الثلاث في حلف شمال الأطلسي؛ إلى تقديم نفس الالتزام. بالنظر إلى أن الصين لديها أسلحة نووية أقل من أي منها، ولا يمكن للمرء أن يفكر في أي سبب يجعلهم يخافون من القيام بذلك.
ومن ثم يورد الرد الصيني بعض من الأرقام والاحصاءات الدالة، منها أن الانفاق العسكري للصين في الوقت الحالي، يبلغ ربع الإنفاق العسكري للولايات المتحدة، وهو أقل إذا ما قورن بإنفاق الناتو ككل. حيث تمثل الميزانية العسكرية للصين حوالي 1.3% من ناتجها المحلي الإجمالي، وهو أقل بكثير من عتبة دول الناتو، لذلك سيكون مطلبا عادلا أن نطلب من دول الناتو خفض إنفاقها العسكري إلى نفس مستوى الصين، قبل توجيه أصابع الاتهام. كما تتمسك الصين بالتعددية والاستقرار الاستراتيجي العالمي، لهذا الصين هي أكبر مساهم بقوات حفظ السلام بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وثاني أكبر مساهم بين جميع الدول في ميزانية الأمم المتحدة لحفظ السلام، فقد أرسلت أكثر من (40 ألف) جندي حفظ سلام، في مهام الحفاظ على السلام والاستقرار على الصعيدين العالمي والإقليمي.
وينتقل الرد من الدفاع إلى الهجوم؛ في انتقاد لاذع لقواعد النظام الدولي، ليذكر أن الناتو يدعي أنه ملتزم بدعم النظام الدولي القائم على القواعد. لكن السؤال هو ما نوع القواعد والنظام الذي سيدافع عنه، إذا كان نظاما دوليا متعدد الأطراف يرتكز على الأمم المتحدة، وهو نظام دولي يدعمه القانون الدولي والأعراف الأساسية للعلاقات الدولية على أساس مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، فمن المؤكد أنه سيتم الترحيب به بأذرع مفتوحة. أما إذا حاول الناتو فرض قواعده الخاصة أو "قواعد العصابات" على المجتمع العالمي، فسيتم رفضه بشكل قاطع. فالناتو يدعي أنه منظمة دفاعية، لكن ما رأيناه هو أنه يشن حروبا ضد دول ذات سيادة، مما تسبب في خسائر فادحة وتشريد عشرات الملايين. ألم يشوه الناتو وأساء استخدام حق الدفاع عن النفس؟ ألا تشكل مثل هذه الأعمال انتهاكا للقانون الدولي؟
يدعي الناتو أن منطقة دفاعه لن تتجاوز شمال الأطلسي، لكن وجوده في كل مكان. في السنوات الأخيرة استعرض عضلاته في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وسعى إلى إثارة المواجهة هنا، كما فعل في أوروبا. تخبرنا مأساة الحربين العالميتين وأزمة أوكرانيا أن الهيمنة وسياسة الحلف لا تجلب السلام أو الأمن، لكنها تؤدي فقط إلى الصراعات. كما يذكرنا بأن الإيمان الأعمى بما يسمى "موقع القوة"، ومحاولات توسيع التحالفات العسكرية والسعي لتحقيق الأمن على حساب الآخرين، لن يؤدي إلا إلى معضلة أمنية. فقد دخل العالم فترة جديدة من التقلبات والتحول، حيث يشكل صعود عقلية الحرب الباردة ومواجهة التكتلات وسياسات القوة، تهديدا خطيرا للسلام والأمن العالميين. لذلك طرح الرئيس الصيني "شي جين بينج" هذا العام في "منتدى بواو الآسيوي" مبادرة الأمن العالمي، داعيا جميع الدول إلى الالتزام برؤية الأمن المشترك والشامل المستدام، واحترام السيادة ووحدة أراضي جميع البلدان. مع الالتزام بأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، ومراعاة الشواغل الأمنية المشروعة لجميع البلدان وحل الخلافات والنزاعات بين الدول سلميا، عبر الحوار والتشاور والحفاظ على الأمن في كل من المجالات التقليدية وغير التقليدية.
ويقدم الرد الصيني في الأخير بعض من التعهدات؛ كونها على استعداد لتعزيز التضامن والتعاون مع جميع الدول المحبة للسلام لممارسة التعددية الحقيقية، وبناء نوع جديد من العلاقات الدولية، على أساس الاحترام المتبادل والإنصاف والعدالة والتعاون المربح للجانبين. نحن بحاجة إلى أن نكون واضحين في أننا مجتمع تشترك فيه جميع البلدان في مصلحة مشتركة، وتبذل جهودا متضافرة من أجل السلام والاستقرار العالميين. الصين بحاجة إلى التنمية وتتوق إلى السلام، لذلك نأمل مخلصين أن نعيش في وئام وأن نتطور مع جميع الدول والمنظمات في العالم. لكن الرد الصيني يختم بتحذير واضح ودال، "يخبرنا تاريخ الصين أن السلام لا يمكن أن يكون هدية من الآخرين. بدلا من ذلك يجب الدفاع عنه بحزم، فنحن لن نكون ساذجين بشأن المفهوم الاستراتيجي الجديد للناتو".