جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الأنصارية الحديدية.. نسيبة بنت كعب

المرأة الأنصارية نسيج وحدها.. إنها نموذج وشاهد على التركيبة الإنسانية التى امتازت بها المجموعة البشرية التى سماها النبى بـ«الأنصار»، وتميزت بعدد من الخصال رفعتها إلى مكانة عالية بين المجموعات التى تحلقت حوله، صلى الله عليه وسلم.

لذا لم يكن من العجيب أن يجعل النبى حبهم آية من آيات الإيمان برسالته: «آية الإيمان حب الأنصار»، وأن يقول فيهم أيضًا: «لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله». كثيرون تناولوا الدور الذى لعبه جيل الصحابة من الأنصار فى نصرة النبى، وتضحياتهم الكبرى فى سبيل الإسلام، لكن دور المرأة الأنصارية ما زال مجهولًا إلى حد ما، رغم أنها شكلت فاعلًا مهمًا وأساسيًا داخل مدينة رسول الله، وكانت حاضرة بقوة فى العديد من المشاهد والأحداث المهمة، وكانت فى أغلب الأحوال موضع إعجاب المرأة المكية، تشهد على ذلك أم المؤمنين عائشة، رضى الله عنها، التى وصفتهن قائلة: «خير النساء نساء الأنصار».

تعلم أن النبى، صلى الله عليه وسلم، عانى مع صحابته فى مكة معاناة تنوعت صورها، من ضغوط وحصار وتضييق عنيف على حركتهم فى الدعوة، حتى أذن الله تعالى بمجىء وفد الأنصار الأول ومبايعتهم للنبى على الإسلام، فيما يطلق عليه بيعة العقبة الأولى، وفى العام التالى حضر وفد من أهل المدينة إلى مكة، يتشكل من سبعين- وفى رواية أخرى يتشكل من ثلاثة وسبعين- رجلًا وامرأتين، وبايعوا النبى فى العقبة الثانية، ودعوه إلى القدوم إلى يثرب، حيث يجد المنعة والحماية بينهم. يعنى ذلك أن المرأة الأنصارية كانت حاضرة داخل المشهد الإيمانى منذ اللحظة الأولى لظهور الجسر الرابط بين النبى وأهل يثرب.

امرأتان كانتا حاضرتين فى بيعة العقبة الثانية، هما نسيبة بنت كعب ولقبها «أم عمارة» وهى من بنى مازن، وأسماء بنت عمرو ولقبها «أم منيع» وهى من بنى سلمة. ولو أنك تصفحت بعض كتب السيرة، أو تلك التى تترجم لحياة الصحابة، وتحديدًا من الأنصار، فسوف تجد أن أسماء بنت عمرو كانت حاضرة فى بيعة العقبة الثانية، لكنها اختفت بعد ذلك من المشهد، فى حين كانت نسيبة بنت كعب حاضرة فى العديد من المشاهد، سواء قبل وفاة النبى، أو بعد وفاته، صلى الله عليه وسلم، خلال فترة خلافة أبى بكر الصديق.. والمتصفح لتاريخ «نسيبة» يجد نفسه أمام تركيبة إنسانية شديدة الخصوصية، إنها شخصية مقاتلة بامتياز. 

نسيبة بنت كعب شأنها شأن أهل المدينة ممن تمردوا على عبادة الأوثان التى ورثوها عن آبائهم وأجدادهم داخل الجزيرة العربية.. التمرد على الموروث ليس بالأمر السهل بالنسبة لرجل، فما بالك إذا تعلق الأمر بمرأة تعيش فى مجتمع ذكورى مغلق مثل المجتمع العربى وقت بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم. ومن الواضح أن «نسيبة»-خلافًا لغيرها- كانت متحركة ومتفاعلة مع الأحداث التى يشهدها مجتمع المدينة، والأرجح أنها سمعت عن دعوة النبى عبر مصعب بن عمير الذى أوفده النبى مع المجموعة الأولى من مؤمنى المدينة والذين بايعوه بيعة العقبة الأولى «١٢ رجلًا». وكان مصعب رضى الله عنه من الشخصيات النشيطة المتوهجة بالقدرة على الإقناع، وهى قدرة تستمد وهجها من الإيمان الراسخ برسالة محمد، صلى الله عليه وسلم، وقد لقبه أهل المدينة بـ«المقرئ» وتعلموا الإسلام على يديه، ولم يمض عام على وجوده فى يثرب حتى عاد بعدها بوفد كبير، كانت من بينه نسيبة بنت كعب، مع أهلها ليبايعوا النبى على الإسلام.

الشخصية القوية المنطلقة التى تمتعت بها «نسيبة» تدلل على أنها تواصلت مع مصعب بن عمير، وسمعت له بشكل مباشر، حين أوفده النبى إلى يثرب، وقد تجلى ذلك فى وقوفها إلى جواره دفاعًا عن النبى فى أُحد، بعد أن دارت الدائرة على المسلمين. لقد وقفت المقاتلة «نسيبة» تدافع عن النبى، بعد أن حاصره مشركو مكة وأرادوا قتله. ويذكر «ابن كثير» أنها كانت ضمن من خرجوا فى أحد، وتحددت مهمتها فى حمل الماء إلى الجنود، وكانت تذهب بالسقاء إلى النبى حين كان المسلمون ظاهرين على المشركين، وسرعان ما تبدلت مهمتها حين مالت كفة المعركة ضد المسلمين، فسارعت إلى النبى مع من سارعوا وأخذت تدافع عنه بسيف فى يدها حتى أصيبت، بعد أن سمعت رجلًا من المشركين يُدعى «ابن قمئة» يردد لما ولى الناس عن النبى: «دلونى على محمد لا نجوت إن نجا»، فهرولت هى ومصعب بن عمير مع آخرين نحو النبى، وتلقت ضربة وجهها المشرك نحوه- صلى الله عليه وسلم- فأصابتها فى عاتقها بجرح غائر، لم تسكت «نسيبة» على الضربة التى وجهت إليها، واجتهدت فى الثأر لنفسها، وسددت عدة ضربات إلى «ابن قمئة»، لكنه أفلت منها بدرعين كان يرتديهما.

صعدت روح النبى، صلى الله عليه وسلم إلى بارئها، ومر العمر بـ«نسيبة» لكنها بقيت على شخصيتها المقاتلة، وعندما ارتد العرب عن طاعة أبى بكر، وشرع الخليفة فى حربهم شاركت «نسيبة» فى واحدة من أشرس المعارك التى خاضها المسلمون على هذا المستوى، وهى معركة اليمامة، وقد روى أنها أصيبت من جديد فى هذه المعركة، فضمدت جراحها وواصلت القتال، حتى تمكن ولدها من قتل مسيلمة، وظلت المرأة الحديدية على ولائها للقضية التى آمنت بها طيلة الوقت.

لم تكن «نسيبة» مجرد امرأة صلبة تعرف كيف تدافع عما تؤمن به، بل قدمت أيضًا نموذجًا للعقل المتسائل المشتعل بالتفكير. ويسجل التاريخ أنها ذهبت إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، وسألته: «ما أرى كل شىء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن» فنزلت الآية الكريمة: «إن المسلمين والمسلمات»، إنه التحول الذى يفرضه الدور الذى قامت به «نسيبة» وغيرها من نساء الأنصار، ضمن الجيل الأكثر تميزًا من المسلمين الذى رباه النبى، صلى الله عليه وسلم، وعلى أكتافه ترسخت عقيدة الإسلام فى الأرض.