جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الشيخ إمام.. صاحب «مصر يامّا يا بهية» الذى لا يعرفه أحد

كان الشيخ إمام عيسى مع الشاعر أحمد فؤاد نجم إحدى ظواهر عصر "الكاسيت" أو إرهاصة مبكرة له.. اشتهر فى أوساط النخبة السياسية والثقافية بعد نكسة ١٩٦٧ بغناء قصائد غاضبة تنتمى إلى الهجاء السياسى، وتعبّر عن غضب المصريين من النكسة والعوامل التى أدت إليها، ثم عن غضب فريق من المثقفين المصريين من الرئيس السادات وسياساته وقتها.. بالأمس الأول كانت ذكرى ميلاد الشيخ إمام عيسى الذى أصبح يمثل جزءًا من ذاكرة الغناء السياسى فى مصر بعد أن انقضت الظروف السياسية التى غنى فى ظلها بحلوها ومرها.. فى السطور القادمة جزء من مذكرات الشيخ إمام عيسى يسجل فيها فصولًا من حياته قبل لقائه الشاعر أحمد فؤاد نجم ودخوله فى مرحلة الغناء السياسى والشهرة فى أوساط المثقفين والسياسيين.

الفصول سجلها الشاعر الكبير إبراهيم داود، ونشرها عام ١٩٩٥ فى مجلة "القاهرة".. ونعيد نشرها اليوم احتفاءً بذكرى واحد من الذين غنوا لمصر بصدق حتى ولو بطريقة خاطئة.

انشغل المهتمون بالشيخ إمام- طوال الوقت- بتاريخه الذى بدأ مع هزيمة يونيو "١٩٦٧"، وسجله ومواقفه السياسية وعلاقته بالفاجومى الكبير أحمد فؤاد نجم.. متجاهلين هذا الكفيف الذى قادته قدماه من مقابر اليهود.. حيث خطفه صوت الست أم كلثوم فى "ليه تلاوعينى" عند مدخل "حوش قدم" ليبدأ حياة جديدة بين صناع الوجدان العظام فى الثلاثينيات والأربعينيات. 

يتحدث "إمام" هنا.. فى أمور قد لا تعنى غير عشاق الغناء القديم وفن التلاوة وسحر العالم السرى لقاهرة المعز فى الزمان البعيد.. يتحدث الشيخ لنشم رائحة الليالى الصافية والرحابة والبهجة والإيمان.. والغناء الخام والبساطة.

حين فقدت بصرى

فى قرية أبوالنمرس التابعة لمحافظة الجيزة ولدت سنة "١٩١٨"، لأبوين فقيرين.. أبى كان يبيع زجاج المصابيح، يدور فى البلاد على رأسه بها، ويعمل أيضًا مدريًا للقمح بالأجرة فى القرى المجاورة.

فى السنة الأولى من ولادتى، لا أعلم فى أى شهر، فقدت بصرى وعندما بلغت الخامسة ذهبت إلى الكُتّاب لحفظ القرآن الكريم، كنت أستمع وأنا فى السابعة إلى عماتى وأمى وهن يغنين أثناء تنقية القمح وفى مناسبات الحج والفرح، كان غناءً شجيًا يأخذنى ويجعلنى لا أتحرك.. وكان يصل الحال بهن إلى البكاء وهن يغنين.. ومن هؤلاء اكتشفت معنى الغناء وأننى وهبت الموهبة الموسيقية. 

كانت "أبوالنمرس" تابعة للجمعية الشرعية، والتى يوجد مقرها الرئيسى فى القاهرة "فى المغربلين".. من أهداف هذه الجمعية عندما يحدث "فرح" فى بلد يتبعها يخرج واحد من الجمعية ليلقى محاضرة تتناول مراسم الزواج وما يجب أن يحدث، وآخر يلقى تواشيح بعد المحاضرة.. يتم اختيار ثلاثة للعمل ككورال لهذه الموشحات.. وكان أبى دائمًا وسط الكورال المختار.. وبالتالى أنا معه. 

أعجب الشيخ بى وقال لأبى: بعد إتمامه المصحف يأتى إلى قصر الجمعية يجود القرآن ويتعلم شئون الدين.. فاستبشر أبى.

وبعد أن أتممت المصحف.. كنت قد بلغت الثانية عشرة.. أخذنى أبى إلى هناك.. ولم تكن المرة الأولى التى أنزل القاهرة فيها، لأننى عندما كنت فى الكتّاب كان يأخذنى عمى لصلاة الجمعة عند الشيخ محمد رفعت فى مسجده فى درب الجماميز، وكان اسم المسجد جامع فاضل باشا "مسجد بتشاك".. وأذكر أنه فى أول جمعة صليتها عنده ذهبنا للسلام عليه، أنا وعمى، فلما أمسك يدى أحس الشيخ رفعت بأننى كفيف، لأنه كان كفيفًا هو الآخر، فسألنى عن اسمى، وسألنى: هل تذهب إلى الكتاب؟ ثم قال: سيكون لك شأن عظيم.. وكان عمرى فى ذلك الوقت سبع سنوات.

عندما ختمت المصحف جئت إلى القاهرة مقيمًا.. حيث الجمعية، كان مؤسسها من الصوفيين الأفاضل، من الذين يعلمون العلم لوجه الله، وكان اسمه الشيخ محمود خطاب السبكى.. تعلمت التجويد على أحد رجال الجمعية، وكان إمامًا من أئمة علم القراءات.. وعملت مساعد موشح ثم ترقيت حتى أصبحت موشحًا.. ظللت فى هذه الجمعية نحو ٤ سنوات إلى أن توفى مؤسسها الشيخ السبكى.. كان الراديو فى ذلك الوقت حديثًا، وكان محمد رفعت العلم الوحيد للإذاعة، يقرأ مرتين كل أسبوع "جمعة وثلاثاء" وكنت أحرص على سماعه، أما فى الجمعية فكان سماع القرآن فى الراديو حرامًا.. إلى أن "ضبطنى" أحدهم وأنا أستمع إلى الشيخ رفعت فى الراديو فذهب وأبلغ الجمعية عنى.. ففصلونى! 

وعندما علم أبى بخبر فصلى، ضربنى وشتمنى، فأصبحت بلا مأوى أجلس نهارًا فى جامع سيدنا الحسين وليلًا أنام فى "الأزهر".. فى هذه الفترة شاهدت الويل.. وعرفت الكثير.. كم سُرقت منى "عمم" وأحذية فى "الأزهر" وأنا نائم.. كنت "أتلفلف" فى الحصيرة مثل "الكرنبة" وأستيقظ أجد نفسى "مقرفص" والجو يهمى ثلجًا "بلا عمة ولا حذاء وحالتى كدر".

عبدالنور باشا

فى هذه الفترة جاءنى رجل وأنا جالس ذات يوم فى جامع سيدنا الحسين وقال لى: السلام عليكم يا سيدنا الشيخ، فقلت عليكم السلام.. وقدم لى نفسه.. وقال إنه يعمل عند باشا يدعى عبدالنور باشا.. ودائمًا يكلفه بجلب مقرئين من "الحسين" للقراءة عنده كل خميس، ويعطى "نفحات"، وقال إنه سمعنى ويريد أن يأخذنى للقراءة عنده.. 

يوم الخميس كنت على أهبة الاستعداد، لابسًا الجبة والقفطان.. جاء الرجل.. وخرجنا كنا صيفًا فى عز بؤونة فى الواحدة بعد الظهر وظللنا نمشى لأكثر من ساعة وسط اللهيب، إلى أن دخلنا إلى مكان أحسست فيه نسيمًا، وقال لى: نحن الآن فى حديقة الباشا.. والباشا عادة ما يكون نائمًا فى هذا الوقت.. وباستطاعتك أن تنام قليلًا وسوف أوقظك فى الرابعة لتلبس ملابسك وتصعد له.. وقال اخلع "هدومك" لكى أعلقها لك، فقلت عندما أدخل الغرفة التى سأنام فيها، فقال لى بأنه سيأخذنى وملابسى بعد ذلك إلى تلك الغرفة.. فقلت: إننى لا أستطيع إلا داخل الغرفة، فأخرج سكينًا وقال: تقلع ولا تتقطع؟ فخلعت كل ملابسى باستثناء ما يستر العورة.. وأخذ كل شىء وتركنى.. 

ظللت أبحث فى تلك الحديقة عن أى شىء.. دون جدوى، فانهمرت فى البكاء.. لا ذبابة ولا عصفورة.. تعبت من البكاء ومن الوقوف ومن الجلوس.. ثم جاءتنى فكرة.. أبحث عن الباب الذى دخلنا منه.. وأقف إليه.. رحت أبحث دون جدوى إلى أن وجدت المدخل.. وبعد فترة سمعت صوت أقدام.. فتصدرت لصاحبها.. فخاف.. وظننى عفريتًا.. كل هذا وأنا على يقين أننى فى حديقة.. وصرخت فى الرجل: أنا بنى آدم.. وأخيرًا جاء.. وعايننى وتأكد أننى إنسى.. وعندما سألته عن صاحب الحديقة قال لى: أنت فى مقابر اليهود.. وحكيت له الحكاية.. فأخذنى إلى قسم البوليس لعمل محضر.. ثم أخذنى إلى بيته وأعطانى جلبابًا وحذاءً.. وأمر زوجته بخدمتى وجلست عنده ثلاثة أيام.. لا أذكر اسم هذا الرجل الكريم.. الذى كان يسكن فى منطقة تسمى كوم الشيخ سلامة. 

بعد الأيام الثلاثة قادتنى قدماى إلى "حوش قدم".

القاهرة 30

جئت إلى حوش قدم عن طريق الصدفة.. أول دخولى إلى الحارة.. عند مقهى عاشور يوجد "مزين" كان اسمه محمد بيومى.. سمعت عنده أم كلثوم تغنى "ليه تلاوعينى" فى الإذاعة وكنت أسمعها للمرة الأولى، فوقفت "متسمر" فنادانى "الأسطى" وطلب منى أن أقرأ شيئًا من القرآن، وبدأت القراءة حتى اجتمع عدد غفير من أبناء المنطقة التى كان عدد كبير من ملاك بيوتها من "أبوالنمرس" أو نمارسة كما يقولون.. تعرفوا علىّ ورحبوا بى.. وبدأت أقرأ "رواتب" عندهم.. كان عمرى ١٨ سنة أى سنة "١٩٣٦".. سكنت فى غرفة فى بيت فى جبلاية فى آخر بيت "غانم النمارسى".. بثمانية قروش فى الشهر، وفى هذا البيت وحده كنت أقرأ فى ثلاث شقق، آخذ من كل واحدة خمسة قروش، فى هذه الفترة كان كل سكان البيوت يجلسون على طبلية واحدة و"لا يوجد ساكن وصاحب بيت" وإذا غاب فرد يتم البحث عنه.. كان هذا شأن القاهرة كلها، كان التجار الذين أقرأ فى محلاتهم.. يُصلون الفجر ويفتحون هذه المحلات ويأتى العمال يرشون الماء ويبخرون المحلات ثم يأتى "الفقى" يقرأ.. ومن التقاليد الجميلة التى شهدتها عند التجار.. يأتى زبون لشراء شىء.. ثم يأتى زبون آخر يطلب شيئًا.. يكون موجودًا عندهم.. فينكرون وجوده ويدلونه على المحل المجاور.. لكى "يستفتح" هو الآخر.. كان هذا شأن الشعب كله.. فى كل المهن.. أخذ وعطاء.. ومحبة.

وأنا أقرأ ذات يوم عند محمد بيومى المزين دخل الشيخ درويش الحريرى للحلاقة.. وكان من سكان الدرب الأحمر فاستمع لىّ وقال: يا سيدنا الشيخ "يقول لى أنا سيدنا الشيخ!".. كان أستاذًا يدرس الموشحات فى معهد الموسيقى العربية ويعلم القراءات أيضًا فى "معهد فؤاد" "ومعهد فؤاد غير معهد عابدين الذى كان صاحبه إبراهيم شفيق".

قال لى الأسطى: هذا هو الشيخ درويش الحريرى الذى علم محمد عبدالوهاب وزكريا أحمد.. فقمت وقبّلت يديه.. وعندما أوصاه الأسطى علىّ وقال له: علمه، قال الشيخ: نحن نتعلم منهم. 

ومنذ تلك اللحظة "لبدت" فيه وقلت له "أنا قتيلك" وأريد أن أتعلم.

تعرفت فى هذه الفترة على عمنا الشيخ زكريا أحمد الذى كان يقضى جميع سهراته فى "حوش قدم"، حيث كان يُعد ألحان أم كلثوم فى هذا البيت الذى كنت أسكنه.

وظللت مع الشيخ درويش طوال الوقت أتعلم منه عن طريق التقليد، ولم أفارقه إلا فى فترات "الرواتب".. التى كنت أنجزها وأنام قليلًا ثم أجرى إلى بيته.. وكان لا يبخل بعلمه على أحد.

وكان يذهب إلى بيته كبار الملحنين والمطربين أمثال أمين المهدى "أفضل عازف عود" وصالح عبدالحى ومحمد عبدالوهاب.. وكان عبدالوهاب يتلقى الدروس عنده وكان شوقى بك هو الذى يدفع الأجرة للشيخ درويش.. ولكننى لم ألحق فترة عبدالوهاب. 

أمشى معه طوال الليل وأذنى عند فمه.. كنت أسجل حتى "الزنة" كنت أمام كنز.. معه أينما ذهب.. لأنه وجد فى استعدادًا للتعلم وتلميذًا غير المكفوفين الذين يتمتعون بقدر كبير من "اللألاطة".. كنا نذهب إلى بيته فى الرابعة صباحًا بعد السهرة.. فيقول لزوجته: "هتأكلينا إيه يا أبلتى" فتقول: كذا.. فيجيبها: مثلًا! وبعد أن "آكل" يقول لى: "عارف بيتكم" أقول له: طبعًا، يقول: عليه!

كانت حياته لا تنسى، طبيعة خالية من العجرفة.. أستاذ.. ديمقراطى.. كان لنا صديق مكفوف نجتمع عنده فى الخرنفش أنا والشيخ "وكان كفيفًا هو الآخر" مع أكثر من عشرين مكفوفًا بزوجاتهم "المكفوفات".. نقسم الليلة على عدة أشياء.. مرات مطارحات شعرية والمخطئ يدفع قرش صاغ.. وكنت أجمع أنا والشيخ درويش كل ليلة ثلاثين قرشًا فى المتوسط.. لزوم الحجرين والذى منه.. ومرات نغنى.. يمسك الشيخ الرق.. “الملحنون القدامى كانت مهمتهم مسك الإيقاع، لأن الملحن إذا كان جاهلًا بعلم الإيقاع.. "طز فيه" وهذا العلم يأتى من الموشحات"، ونغنى موشحات وأغنيات من التراث القديم، وكنت فى هذه الأيام على وشك التعرف على الشيخ زكريا أحمد الذى تعرفت عليه سنة ١٩٣٩ عندما كان يأتى عندنا فى حوش قدم عند عائلة الشعبينى، أصحاب البيت الذى أسكنه كان يسهر من ٨ إلى ٨، كان ساحرًا، يقلد الحواة والفقهاء بتوع القرافة.. كان يجنن.. أحبنى الشيخ زكريا لأننى كنت كلما سمعت الجملة أقولها معه "من أول مرة" فى الإعادة، أحبنى أيضًا "سى" على الشعبينى الذى كان محبًا للموسيقى وكنا نلتقى صباحًا، نصطبح سويًا.

فى هذه الفترة كنت أغنى فى "الحتة" كهاوٍ.. فى سبوع.. فى عيد ميلاد.. فى طهور.. وأقول لهم: اسمعوا الأغنية التى ستغنيها أم كلثوم الشهر المقبل.. وتعلمت أصول الموسيقى دون أن أتعلم العزف على العود.

كنت أعرف النغمات وأصولها والأرباع والأنصاف والمقامات ولكننى لا أعزف، لأننى كنت أظن أن المكفوفين لا يتعلمون العود، إلى أن جاءت سهرة عزف فيها العواد الماهر كامل الحمصانى وكان موجودًا زميل مكفوف.. عزف هو الآخر على العود.. فجن جنونى وقررت أن أتعلمه.. وقلت لصديقنا هذا: علمنى كيف أضع أصابعى على الأوتار وأخذت معه خمس حصص، وبدأت أمرن نفسى بعد أن اشتريت عودًا بخمسين قرشًا.. 

فى سنة "١٩٤٥" أشار علىّ البعض إلى أن أخلع العمة والكاكولا والقفطان، لأنه لا يصح أن ألبسها وأنا أحمل العود.. ولم يكن لدىّ ما يمكننى من شراء بدلة.. فأعطانى "سى" على الشعبينى بدلة وقيفتها، كانت فرحة الدنيا عندى لا تعادلها فرحة.. وأسكننى الشعبينى فى بيته مجانًا.

بدأت أغنى لمحمد عثمان والشيخ زكريا وموشحات عمى الشيخ درويش، وبدأت أمارس الغناء كمحترف.. وتركت احتراف قراءة القرآن.. عائلة الشعبينى مغاربة فى الأصل.. وكانوا يعطفون علىّ.. كانوا أثرياء "كويسين" ونفسيتهم حلوة، وكان والدهم طه الشعبينى من علماء الأزهر، وكان أبوه هو الذى اشترى هذا البيت وكان على الطريقة الشاذلية.. وهذا البيت كان للخزين فقط للسمن والقمح والبصل وغرفة للأولاد يستذكرون فيها "هى التى يسكنها أخونا نجم" ناس أهل خير آل الشعبينى.. كانت بيوتًا.. وكان خيرًا، بيوتًا مفتوحة للجميع.. شأنهم شأن الشعب المصرى.. تترك شقتك مفتوحة وتغيب سنة، تعود.. وهى كما هى.

ظللت محترفًا للغناء حتى سنة "١٩٦٢" سنة تعرفى على الشاعر أحمد فؤاد نجم.

رفعت- أم كلثوم- فتحية- على محمود

كان الشيخ رفعت، رحمة الله عليه، يأخذ ابنه ويبحث عن ميتم عند "ناس فقراء" ويقرأ فيه.. ويدفع اللى فيه النصيب، وكان الوحيد من بين المقرئين الذى يحرص المسيحيون على سماعه، أرادت الإذاعة عندما كان مستشارها سعيد لطفى أن تسجل له المصحف كاملًا حتى يتم الاستغناء عنه، فقال لهم: لا مانع عندى بشرط أن أذيع، وتظل هذه التسجيلات حتى أموت فرفضوا.. وفصلوه. لكن التلغرافات التى جاءت للإذاعة من كل مكان أرغمتهم على إعادته.

صوته مثل صوت أم كلثوم يشبه العسل النحل أول قطفة، صوتان جاد بهما الزمان فى "قصعة" الحلاوة.. صوتان مكتملان من القرار إلى الجواب "يعنى ثلاثة أوكتافات". هناك صوتان لا يملكان حلاوة الصوت ولكنهما من الناحية الفنية أستاذان عملاقان هما.. الشيخ على محمود والست فتحية أحمد.. رفعت وأم كلثوم صوتان لا مثيل لهما ولكن فنهما "على قدهم".. إنما على محمود نهر متدفق للفن دون حلاوة صوت، ولكنه يشعرك بفنه بأنك فى الجنة كذلك فتحية.. التى علّمت أم كلثوم. الست فتحية أبوها كان الشيخ أحمد الحمزاوى وأمها كانت بمبة كشر، أبوها كان من حفظة القرآن ولكنه كان يذهب إلى الأفراح ليقول منولوجات فى فترات راحة المطرب.. وكان يحمل ساعة اسمها "ليديا" فى حجم الرغيف.. ولم يكن يجيب عمن يسأله عن الساعة إلا إذا قال له: يا مستر أحمد.

من الأشياء التى كان يضحك الجمهور بها على سبيل المثال.. قصيدة لحنها الشيخ أبوالعلا محمد تقول: 

غيرى على السلوان قادر

وسواى فى العشاق غادر

لى فى الغرام سريرة

والله أعلم بالسرائر

فيغنى الشيخ الحمزاوى اللحن الأصلى ومعه بطانته المكونة من اثنين أو أكثر حتى يصل إلى

"والله أعلم بالس..…" فيردون عليه: ياقطة.. ياقطة.. 

والست فتحية تعلمت على يد الشيخ درويش الحريرى.. أم كلثوم لم تصل إلا بحلاوة صوتها.. أما علمها بالنغمات فكان غير دقيق، الفن فى الأساس ألحان محددة "مزمنة".. أما فتحية فكانت أستاذة، أولًا: لأنها شربت فنها من كامل الخلعى ومن سيد درويش ومن درويش الحريرى.. "اتعجنت" وسطهم، ثانيًا: كانت من أسرة فنانين، أبوها يلم بالوسط، ثم أخواتها الثلاث مطربات، مفيدة، رتيبة، نعيمة "نعيمة المصرية"، وكانت بنت بلد "مولودة فى باب الشعرية".. ولو كانت حافظت على ما كسبت لاشترت نصف مصر.. ولكن هذا الجيل كان "هلوكى" "هاتى يا سدرة.. ودى يا مدرة". 

نعم الله

من باب التحدث بالنعمة، تفضل علىّ الله وفعل معى أول شىء.. أخذ عينى.. ووضع مكانهما أجمل وأحسن نعمة هى نعمة الإدراك والإحساس.. و"حفّظنى" كلامه وزرع فى موهبة الموسيقى.. وجعلنى محبوبًا من الناس.. كل هذه النعم أمام نعمة واحدة.. كم أنت محظوظ.. يا إمام!!