جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

التناول الانتهازى لآثار الأزمة العالمية

فى مصر الآن.. نعيش تحت سطوة متغيرين مهمين.. أولهما لا دخل لنا به وهو الأزمة الاقتصادية العالمية، وثانيهما اتخذناه بكامل إرادتنا وهو "الحوار الوطنى" وما يعنيه من تقوية الجبهة الداخلية وتخفيف الاحتقان السياسى وجنى ثمار الانتصار على الإرهاب وتجاوز المؤامرات الخارجية وما استتبعها من إجراءات استثنائية.. لكن أخشى ما أخشاه أن "انتهازية" بعض إعلاميينا قد تجعل هناك تعارضًا بين كلا المتغيرين المهمين.. فالفكرة أن مواجهة آثار الأزمة تتطلب بلا شك بعض الحلول غير التقليدية لبعض المشاكل، وربما فى مرحلة أخرى قادمة تتطلب بعض الإجراءات التقشفية وتقليل أوجه الإنفاق، وهى قد تستدعى بعض الإجراءات المؤقتة مثل تقليل استيراد سلع معينة توفيرًا للعملة الصعبة.. وغير ذلك من إجراءات استثنائية مؤقتة يفرضها ظرف استثنائى وطارئ، وهى إجراءات يتم اتخاذها فى العالم كله بصيغ وطرق مختلفة وفق حالة كل بلد والنقص الذى يعانيه فى مجال من المجالات.. فدولة صناعية عظمى مثل ألمانيا لا تعانى نقصًا فى القمح ولكن أزمة فى الزيوت.. لذلك يتم تقنين شراء الزيوت لفترة مؤقتة والبحث عن بدائل لما كان يتم استيراده.. إلخ.. أخشى ما أخشاه أن يستغل بعض الإعلاميين لدينا الأزمة ومناخ الحوار فى الهدم بدلًا من البناء، وفى "المزايدة" الرخيصة على المسئولين بدلًا من البحث عن حلول عملية تفيد الناس وتساعد فى عبور الأزمة، وفى استغلال اجتهاد مسئول بهدف خدمة وطنه فى التسفيه منه وركوب موجة التريند ضده والظهور بمظهر أشجع الشجعان فى حين أن حقيقة الأمر ليست كذلك كما يعلم الكثيرون.. إن "أحقر" ممارسة إعلامية قام بها مجموعة من إعلاميينا فى الفترة من ٢٠٠٥ حتى ٢٠١١.. حيث ينحنى الإعلامى راكعًا أمام رجل الأعمال الذى يمول له برنامجه أو أمام الفنان الذى يقبل أن يظهر معه مجانًا تاركًا له تورتة الإعلانات الضخمة فى الحلقة أو أمام أى مسئول "شديد" يعرف أن غضبته مؤذية.. لكنه فى نفس الوقت ما إن يعثر على مشكلة فى محافظة ما تعثّر فيها محافظ سيئ الحظ ورث تركة خربة، أو مشكلة فى وزارة ما وزيرها ليس من ذوى الأنياب الحادة، حتى يتحول هذا الإعلامى إلى أسد هصور أمام الشاشة ويرتدى ثياب أبى زيد الهلالى ويفترس المسئول أو يهينه أو يسفه منه قائلًا: "هات لنا يا ابنى الوزير على التليفون".. وأنا لا أقصد هنا إعلاميًا بعينه، ولكن مدرسة كاملة من الإعلام الانتهازى التى يسمى أبناؤها فى بعض الأدبيات بالإعلاميين "الصفر"، نسبة إلى اللون الأصفر الذى هو لا أبيض ولا أسود، ولكن مزيج خبيث بين اللونين.. حيث يقنع الإعلامى "الأصفر" السلطة بأنه يمتص غضب الناس بالهجوم على هذا الوزير أو ذاك ويحول دون انفجارهم.. ويقنع الناس بأنه صوتهم الشجاع والمخلص والمعبر عنهم.. والحقيقة أنه يستفيد من الطرفين.. ويراكم الملايين والمليارات من الحرام الإعلامى وتسليك مصالح الرعاة وخدمة القوى الإقليمية أو عرض الخدمات عليها إذا شاءت وفكرت.. وقد لعب هذا الفريق دورًا لا شك فيه فى تشويه صورة الدولة المصرية وتصوير الأمور بغير ما كانت عليه وتضخيم العيوب بدلًًا من إصلاحها.. ولا شك أن هذه كانت انتهازية مقيتة أدت لحوادث متسارعة أضرت بالبلد فى المجمل النهائى، كما أدت لأن يصبح بعض الإعلاميين "الصفر" من أصحاب المليارات بعد أن كانوا يسألون الله حق الغداء قبل سنوات قليلة.. وهى قصص ذات طابع روائى لا بد أن تكتب فى يوم من الأيام.. إن ما نحتاج إليه هذه الأيام هو الحوار البنّاء واللغة الموضوعية.. بل إننا نحتاج لتشجيع المسئولين على الاستماع لمراكز البحوث المختلفة، سواء فى مجال الزراعة أو تكنولوجيا الغذاء.. وإعادة تقييم كل الأبحاث التى تطرح حلولًا غير تقليدية لأزمات مثل نقص القمح أو زيوت الطعام المختلفة أو أى سلعة أصبح العثور عليها صعبًا بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية.. ودور الإعلام المحترم هو تقديم أصحاب الأفكار الجديدة وحث المسئولين على الأخذ بها وتشجيعهم على الابتكار والتفكير.. لا المزايدة عليهم أو محاولة التقليل من شأنهم أو السخرية منهم.. لأن المسئول الذى يجتهد له أجران إن أصاب وله أجر إن أخطأ.. أما السخرية والتسفيه فهو أسلوب الرعاع ولا يصدر سوى من الرعاع.. والله أعلى وأعلم.