جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

التنوير والتدين

نرى هذه الأيام مثل ما رأينا على مدى التاريخ من يقول إن هناك تناقضًا بين التنوير والدين أو التدين. 
فهل هذا صحيح؟

بداية.. ما التنوير؟ التنوير هو خروج الإنسان من حالة عدم استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر . ويحدث هذا التسليم العقلى للآخر لسببين.. الأول التكاسل، والثانى الخوف والجبن.

فتكاسل الناس فى الاعتماد على التفكير أدى إلى تخلفهم من جهة ومن جهة أخرى جعل الآخرين يستغلونهم وذلك بسبب الخوف بكل مسمياته.

أما التدين: فهو التزام الشخص صاحب الدين (مسلم، مسيحى، بوذى..إلخ) بأحكام الدين الذى يتبعه اعتمادًا ومن خلال النص الدينى الذى يؤمن به. 
فهل بعد هذه التعريفات البسيطة للتنوير والتدين نجد أى تناقض؟ لا أعتقد وجود أى تناقض هنا. وذلك لأن التنوير وأعمال العقل الناقد لا تناقض بينهما، حيث إن الإيمان لابد له من عقل يفعل ويفسر ويجتهد ويأول أى نص دينى حتى يكون إيمانًا يعتمد على اقتناع إيماني لا يتزعزع وليس إيمانًا موروثًا (أسريًا واجتماعيًا وقبليًا). وكما قال ابن رشد (النص نور والعقل نور ولا يتناقض النور مع النور) .
وفى البداية هنا لابد أن نحدد وأن نوضح أن الإيمان بالثوابت الدينية المرتبطة بما يسمى بالغيبيات (الإيمان بالله الذى لا يرى، اليوم الآخر، نهاية العالم …إلخ) فهذه ثوابت عقيدية وهى البداية للإيمان الذى لا يرى . وما دون ذلك فيما يخص الحياة فهنا لابد من إعمال العقل النقدى وعدم التسليم للاجتهادات والتفسيرات بغير اقتناع (استفت قلبك). 
هنا لماذا نرى من يحاولون ايجاد هذا التناقض بين التنوير والتدين؟ هل لأن التنوير تعبير فلسفى ظهر فى أوروبا على يد فلاسفة غير مسلمين؟ وهل هناك فاصل وفصل بين ما ينتجه العقل البشرى طوال التاريخ بين فكر هنا وفكر هناك؟ أم أن الصحيح هو توافق هذا الفكر وذلك الإنتاج مع ما نؤمن به من معتقدات دينية وغير دينية، حيث إن هذا هو مسار البشرية وتوافق الإنسانية وتكامل الحضارات وليس تصارعها مما يدعون . ومالى أذهب بكم بعيدًا وابن رشد المسلم وابن الحضارة الإسلامية وفى أوروبا هو الذى تحدث وأصّل لإعمال العقل فى تفسير النص الدينى تأكيدًا لمقاصد الدين التى تدعى لإعمال العقل (لعلكم تعقلون) . ولذا كانت فلسفة ابن رشد تمثل نقلة نوعية فى الفكر البشرى الدينى وغير الدينى . وقد كان من مظاهرها تلك الثورة الإصلاحية الدينية فى مواجهة فكر الكنيسة الكاثوليكية، حيث اعتمد لوثر على إعمال وتفعيل العقل فى النص الدينى . 
إذن ماهى الحكاية بصراحة ووضوح؟ هى حكاية اتخاذ الدين تجارة مادية ومعنوية وحالة من حالات التمايز الدينى والاجتماعى فى إطار التدين الشكلى والمظهرى الذى لا علاقة له بالإيمان الصحيح والمقاصد العليا للأديان . هو التدين الشكلى الذى يدعى أنه المدافع عن الدين والحافظ للعقيدة. التدين الشكلى الذى يدعى ويحب أن يظهر بأنه القابض على جمرة الإيمان الصحيح (طبعًا من وجهة نظره) فيساير التدين الشعبوى الذى لا يرى نفسه فى غير التعالى والتمايز على الآخر. والتدين الشعبوى هنا هو ذلك التدين الذى يدخل العائلية والقبلية والجهوية فى مجمل الادعاء بالحفاظ على الدين من الذين يهاجمونه فيكسب شعبوية دينية اجتماعية وقبلية وجهوية لاعلاقة لها بصحيح الدين وعمق الإيمان الذى يتمثل فى الإيمان الواقر فى القلب والذى يصدقه العمل الصالح لكل البشر ولكل الإنسانية التى خلقها الله وميزها واراد لها تلك التعددية الدينية. أما هؤلاء لأن تدينهم شكلى بهدف التواجد فى (الترند) كما يقولون ولاكتساب جماهيرية شعبوية لاعلاقة لها بدين أو تدين صحيح. هنا نجدهم تختلقون المعارك مع التنوير والمدنية والتطور الطبيعى الذى يمثل ويطبق حكمة الله فى الخلق. زاعمين أن الدين هو رؤيتهم وأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم القديمة والموروثة التى يتعايشون عليها. 
ولذا فالتنوير الذى يدعو إلى إعمال الفعل ليس فى الإطار الدينى فقط، ولكن فى كل مناحى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية حتى نساير التطور ونلحق بالتقدم . كما أن من يوجدون ذلك التناقض هم أيضًا لا يريدون إصلاح أى فكر دينى ولكنهم يريدون التمسك بالقديم أيًا كانت صلاحية هذا القديم وتناسبها مع الزمان والمكان الآنى. 
والتنوير لا يكون بطريق الثورة. ولكنه طريق الاعتماد على العقول وعلى الذات بديلًا للغير استغلال هذه الذات. وهذا يتطلب التربية العقلية والنقدية وهذا لا يكون بغير الحرية وفى المقام الأول. لأن الحرية مطلب ضرورى لنشأة هذا التنوير. والحرية هنا لا تعنى عدم طاعة القانون . فطاعة القانون لا تعنى إلغاء الحرية بل تعنى إثباتها فى إطارها العملى. خاصة طالما كانت القوانين صادرة من برلمانات شرعية تعبر عن الجماهير التى هى مجموع الأفراد . 
حفظ الله مصر وشعبها العظيم .مصر كل المصريين.