جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

كَنْز بليغ حمدى.. ما خفى كان أعظم

حالة من الفرح الشديد انتابت الوسط الفنى والثقافى فى مصر وعدد من بلدان الوطن العربى طيلة الأسبوع الماضى ولا تزال منذ أعلن الزميل أيمن الحكيم عن كنز جديد أرسله إليه أحد ورثة بليغ حمدى.. وهو عبارة عن أغنية من تأليفه وألحانه اسمها «الأرض» أو هى حالة وطنية من حالاته المتعددة لم يضع لها اسمًا ولكنها تتحدث عن «مصر».. وأضاف الحكيم وهو يتحدث لبعض الفضائيات التى استقبلت ذلك الكشف بفرح عظيم.. «ورثة بليغ».. بالتحديد ابن أخته يرى أن على الحجار هو الأنسب لغناء ذلك اللحن المكتشف.. وأنه فوجئ بحفاوة الحجار وفرحه غير المسبوق باللحن.. وأعلن أحد مقدمى البرامج موجهًا رسالته للحجار الذى أعلن نيته إنتاج اللحن على نفقته الخاصة وفاءً لأستاذه الذى قدمه للعالم منذ ما يزيد على ٤٥ سنة.. إن الجميع فى مصر معه يدعمون إنتاج هذه الأغنية.

فرحت بذلك الاحتفاء لا شك.. لكننى تذكرت فجأة ما قاله لى الإعلامى الراحل وجدى الحكيم عن امتلاكه عددًا كبيرًا من ألحان بليغ التى لم تخرج للنور.. بعضها اكتمل تلحينه.. وبعضها ظل ناقصًا يحتاج إلى من يكمله.. وبعض تلك الألحان كتب بليغ بنفسه كلماتها ولم يكملها وتحتاج لشعراء لإكمالها على نفس اللحن.. وقد فعل بليغ هذا الأمر كثيرًا فى حياته.

تذكرت القصة وأنا أسأل ورثة الراحل الإعلامى الكبير وقد كان صديقًا مقربًا لبليغ.. أين ذهبت تلك الكنوز؟.. علَّ الإعلامى الصديق جلال وجدى الحكيم يبحث مع العاملين فى الاستديو الخاص بوالده الراحل الكبير عنها.. فالرجل كان منظمًا بشكل غير عادى.. ويحتفظ بتصنيفات لكل ما لديه من حلقات وثائقية ومذكرات وجلسات فنية.. وقد سمعت بعضًا من هذه الأغنيات.. وحاولت الكتابة على لحنها.. على موسيقاها.. وقد كان هناك مشروع تحمس له المطرب الجميل وأحد عشاق بليغ المهووسين بفنه فضل شاكر لإنجاز أحد هذه الأعمال، لكن الأمر توقف بعد تعرض شاكر لأزمات الكل يعرفها.

الأهم من ذلك أن الملحن شاكر الموجى.. كان قد كشف لى فى لقاء قبل وفاته أيضًا عن مجموعة ألحان لبليغ أهداها إليه- أو بمعنى أدق- يحتفظ بها منذ كانا فى الخارج.. وقد عاش الموجى معه لفترات طويلة.. وكعادة بليغ فإنه كان يهدى الكثير من ألحانه لمطربين بعينهم دون مقابل.. فقط هو يطلب إرسالها وتوصيلها للنجم الذى يرى صورته فى لحنه.. وإحدى هذه الأغنيات قالى الموجى إن بليغ طلب منه إرسالها لجورج وسوف وإنه أرسلها بالفعل.. والأخير أعلن عن أنه سيغنيها لكنها لم تظهر حتى الآن.. وأخبرنى الموجى بما هو أكثر من ذلك.. فقد كتب بليغ بعض الأغنيات أثناء وجوده فى باريس ولم يلحنها.. يعنى هو شاعرها فقط وهذه الأغنيات لحن شاكر الموجى إحداها باسم «عزيز عينى».. وأنه سجلها مع جورج وسوف أيضًا.

فى السياق ذاته.. أخبرنى الخال الراحل الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى فى إحدى جلسات «الإسماعيلية» التى أحتفظ بتسجيلاتها عندى.. بأن بليغ لحن له مجموعة من الأغنيات عقب عودته من الخارج وصدور الحكم ببراءته.. هذه الأغنيات صدر منها ثلاث أغنيات فقط غناها محمد رشدى فى ألبوم اسمه «عالى شباكك عالى».. فيما ظلت باقى الأغنيات التى كتبها الأبنودى ولحنها بليغ دون أن تخرج للنور وأظن أنها موجودة فى مكان ما.. ربما فى بيت رشدى أو الأبنودى.. أو فيما تركه بليغ بشقته.

ما أقصده من الذى ذكرته.. أن ما تركه بليغ حمدى كثير ويستحق أن نبحث عنه.. وأن نحتفى به.. وأن نعيد تصنيفه وتقديمه للناس.. فكل جملة لحنها هذا الرجل بألف أغنية مما يعدون.

لقد فوجئت والخال يغنى لى مطلع إحدى تلك الأغنيات بأننى أمام حالة موسيقية فذة وغير مسبوقة.. ثم توقف الخال الذى كان يجيد الغناء ويعرف أسراره.. أن بليغ لم يعجبه هذا اللحن عندما انتهى منه.. وركنه حتى يعيد النظر فيه مرة أخرى.. وقد كانت إحدى عاداته الغريبة.

لقد سمعت فى إحدى المرات وأنا فى حضرة الراحل وجدى الحكيم أحد هذه الألحان الناقصة.. وذهبت لأكتب على موسيقاها.. بعد أن أخذت المذهب المكتوب.. ولما استطعمت كلماته شعرت بأنها ليست من تأليف بليغ.. وأنها ربما تكون أقرب إلى لغة عبدالرحيم منصور.. وفى اليوم التالى قابلت الراحل محمد حمزة فى روزاليوسف.. وحكيت له ما حدث وتخمينى لصاحب الكلمات.. وفوجئت به يخبرنى بأنه صاحب هذه الكلمات.. وأنه لم يستطع أن يكمل كتابة الأغنية.. لأن بليغ قام بتقديم هذا اللحن ثلاث مرات سابقة.. إحدى المرات بكلمات غنتها نجاة الصغيرة.. والمرة الثانية بلحن غنته سوزان عطية.. ورغم خروج اللحن للناس وإعجابهم به.. هو كان يشعر بغير ذلك.. وطلب الكتابة للمرة الثالثة.. فكتب حمزة ذلك الدخول والمقطع الأول ولم يكمل.

هذه القصة تقول لك باختصار إننا بصدد موسيقار «بيشر ألحان».. ورغم أن الموجود من ألحانه بأصوات المطربين يتجاوز ثلاثة آلاف لحن.. لكن المؤكد أن هناك عشرات الألحان لا تزال موجودة دون غناء، وما أحوجنا إليها هذه الأيام.

أثمن ذلك الفرح الذى أخرجه صديقى وزميلى أيمن الحكيم وأسرة بليغ إلى النور.. وعسانا نستمع إلى ذلك الكنز بصوت الحجار قريبًا.. فى الوقت نفسه أدعو كل عشاق بليغ وهم كثيرون فى عالمنا العربى إلى جمع تراثه.. وتصنيفه وتوثيقه.. وأدعو وزارة الثقافة ومسئوليها وفى مقدمتهم الفنانة إيناس عبدالدايم.. إلى اعتبار شهر سبتمبر المقبل شهرًا لموسيقى بليغ.. أو لتكن دورة مهرجان الموسيقى العربية المقبلة فى نوفمبر دورة خاصة بموسيقى وأغنيات ذلك المبدع الفذ.. على أن تكون مهمة «جمع وتوثيق وإعادة تقديم» المجهول مما لحن الرجل من مهام أسرة المهرجان ومن يرغب من المحبين لفن بليغ حمدى.

بعض دول العالم «لا تملك» أربع نغمات مما أبدع بليغ.. لكنها تجعل منها «مزارات».. يرحل إليها العالم من كل حدب وصوب.. فما بالك بما نملكه نحن.. وفى مقدمة كنوزها.. تلك الموسيقى الناضرة الحاضرة القاهرة.. موسيقى حلوانى مصر.. بليغ حمدى؟!