جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

لماذا ذهب بايدن للشرق الأقصى الآن؟

بعد أن أنهى الرئيس الأمريكى زيارته إلى كوريا الجنوبية، توجه إلى اليابان التى تمثل المحطة الثانية ضمن جولة مهمة، تهدف فى المقام الأول لاستعادة وتعزيز الدور الرائد للولايات المتحدة فى آسيا بمواجهة ازدياد نفوذ الصين، وتسكّن فى الوقت ذاته الهواجس من التجارب النووية والصاروخية لكوريا الشمالية التى تزعج عددًا من حلفاء واشنطن التقليديين، فضلًا عن أنها تتشارك معها جانبًا من هذا الانزعاج، حيث ترى أن الملف الكورى الشمالى ما زال عصيًا على خلق مساحات للحركة الآمنة فيه.

ولن تخلو الزيارة الموسعة بالطبع من الإعلان عن حزمة من المبادرات الاقتصادية، مع شركاء يمثلون أهمية كبيرة للولايات المتحدة فى هذا المسار، وقد يكون عنوان «إطار العمل الاقتصادى لمنطقة الأندوباسيفك من أجل الازدهار»، كمبادرة للتجارة الإقليمية هو أهم ما سيعرضه جو بايدن على دول المنطقة.

لكن مسببات الزيارة فعليًا عامرة بالملفات المشتركة، فمما أنجز فيها قبل وصول الرئيس إلى طوكيو، أن الرئيس الأمريكى وضع خطوطًا متقدمة للعلاقة مع الرئيس الجديد «يون سوك- يول» المنتخب حديثًا لكوريا الجنوبية، وتعهد بأن تقوم واشنطن بوضع خطة عاجلة جديدة لـ«توسيع» نطاق وحجم التدريبات العسكرية المشتركة والتدريب فى شبه الجزيرة الكورية وحولها، لمجابهة استعراضات كيم جونج أون المتكررة، التى قام فيها بسلسلة من الاختبارات الصاروخية هذا العام فى تحد مباشر للعقوبات الدولية.

لذلك تطرق بايدن فى حديثه مع الرئيس الكورى الجنوبى حول أهمية صياغة اتفاقات تعاون أمنى جديدة تشمل منطقة الأندوباسيفك بأسرها وبتمدداتها لتظلل الهادئ بجنوبه وشماله.. فهذه الاختبارات التى تمثل عامل قلق لكلا البلدين، بلغت بالفعل هذا العام وحده تسع عمليات إطلاق لصواريخ، البعض منها يفوق سرعة الصوت، وشهدت إحداها التى جرت مارس الماضى حالة احتقان كبيرة ما بين الكوريتين عندما ادعت الشمالية أنها اختبار لمكون قمر صناعى للاستطلاع، فى حين أكدت «سول» أنها عملية إطلاق مقنع لصاروخ باليستى متقدم.

هذه الرغبة الأمريكية فى تطوير آليات التعاون المشترك مع كوريا الجنوبية، كدولة ارتكاز رئيسية لمخططات واشنطن فى المنطقة، قد تعجل من استجابتها للرئيس يون الذى يرى أنه فضلًا عن احتياج بلاده لأنواع متقدمة من التدريبات للاستعداد لهجوم نووى محتمل، هناك حاجة ماسة لديه فى الحصول على طائرات مقاتلة ومنظومات صاروخية تتجاوز ما كان عليه الأمر فى الماضى، حيث ظل التسليح الكورى الجنوبى لعقود تقليديًا بمقاييس التهديد، ويعتمد بشكل رئيسى على الحماية الأمريكية المباشرة، وكان حسب ما ذكره الرئيس الكورى يدور فى فلك الحاجة فقط لمظلة نووية لأغراض الردع، فى حين تقديراتهم اليوم تذهب إلى ضرورة امتلاكهم قدرًا أكبر من التنوع والفاعلية فى مجال الأسلحة الهجومية، التى يمكنها أن تخلق حالة من التوازن مع الجارة التى لديها نهجها المنفلت من وجهة نظر النظام الكورى الجنوبى الحالى.

فمن التصريحات الشهيرة لـ«يون» التى أطلقها أثناء الحملة الانتخابية منذ شهور، أنه مستعد لتوجيه «ضربة استباقية» ضد كوريا الشمالية إذا لزم الأمر، وهو خيار غير واقعى إلى حد كبير لكنه يعكس الحالة التى تعيشها كوريا الجنوبية فى الوقت الراهن، وأنها تشهد تبدلًا كبيرًا عما كان عليه الوضع إبان فترة حكم الرئيس «مون جاى»، الذى ظل يراهن طوال فترة حكمه على إدراج قضية نزع الترسانة النووية للجارة الشمالية، دون تحقيق خطوة واحدة بالرغم من جهوده فى الوساطة بين بيونج يانج وواشنطن، التى اسلتزمت لقاءه بنظيره الكورى الشمالى أربع مرات، وهى سابقة رئاسية يبدو أنها ستتبدل كليًا مع نظام الحكم الجديد.

لكن يظل الأهم والأكثر إثارة للغط فى هذه الرحلة الرئاسية الأمريكية، ما جرى خلال المؤتمر الصحفى فى طوكيو حين سُئل الرئيس بايدن، عما إذا كان على استعداد للتدخل «عسكريًا» للدفاع عن تايوان ضد أى محاولة صينية لضمها، فأجاب دون تردد بـ«نعم.. هذا هو الالتزام الذى قطعناه على أنفسنا»، حيث لخص الرئيس الأمريكى فى ذات الحديث مجمل الموقف الأمريكى، باعتبار أن واشنطن ملتزمة بسياسة الصين الواحدة وما جرى الاتفاق عليه مع بكين بهذا الشأن، لكنها ترفض وتتناقض مع فكرة فرض هذا الأمر بالقوة العسكرية.

ولم يترك بايدن فرصة الحديث لتفلت قبل أن يحذر من أن استيلاء الصين على تايوان بالقوة سيؤدى لتفجير المنطقة على غرار غزو روسيا لأوكرانيا، وبعد إثارة هذا التصريح حالة واسعة من الجدل على الجانبين؛ للحد الذى اعتبره البعض انقلابًا كاملًا فى السياسة الأمريكية تجاه الصين، تعمد جو بايدن أن يعيد فتح الموضوع فى اليوم التالى، مؤكدًا أن سياسة واشنطن حيال تايوان والقائمة على «الغموض الاستراتيجى» لم تتغير، بعدما حرص كبار المسئولين الأمريكيين على التأكيد بعدها أن نهج الولايات المتحدة المتبع منذ عقود حيال تايوان، ما زال على حاله.. من هؤلاء «لويد أوستن» وزير الدفاع الذى تحدث فى نفس يوم تصريحات رئيسه، مؤكدًا التزام الولايات المتحدة بتسليح تايوان لتتمكن من الدفاع عن نفسها مع الاعتراف بسيادة الصين القانونية، ليظل نهج «الغموض» هو سياسة الردع التى تنتهجها الولايات المتحدة إزاء تلك الإشكالية، بل وأكثر من ذلك ما كشف عنه «مارك ميلى» رئيس الأركان الأمريكى، عن استعداد القوات الأمريكية للتحرك بسرعة وفق خطة تم إعدادها مسبقًا إذا وقع هجوم عسكرى على تايوان.

ما هو ثابت من مخرجات تلك الزيارة الأمريكية أنها جاءت لتطمئن وتطيب خواطر الحلفاء الرئيسيين الذين ارتفع لديهم منسوب القلق، بالنظر إلى تجربة الحرب الروسية الأوكرانية وتطبيق نموذجها على الحالة الصينية فى محيطهم، فى حال أقدمت بكين على ضم تايوان بالقوة، وهذا دفع الرئيس الأمريكى إلى اقتحام الملف وإثارة اللغط المتعمد حوله، فالإدارات الأمريكية المتعاقبة ظلت تؤكد طوال الوقت سياسة «الصين الواحدة»، أى الإقرار بأن تايوان جزء من الصين دون سيادة بكين عليها، وهو ما حافظ على الاستقرار فى مضيق تايوان لسنوات، وترك للجانبين العمل على إيجاد حل دون استخدام القوة لتغيير الوضع القائم.

الجدير بذكره أن نقاشًا متزايدًا يدور مؤخرًا فى الولايات المتحدة بين الحزبين الكبيرين، حول السياسة التى صممت قبلًا لدرء الصين عن الغزو وثنى تايوان عن إعلان الاستقلال رسميًا فى الوقت نفسه، ويطرحون ما إذا كان التفكير بشأن التحول إلى «الوضوح الاستراتيجى» هو الأفضل حاليًا، خاصة مع نهج بكين العدائى المتزايد تجاه تايوان فى السنوات الأخيرة.

ربما يكون جو بايدن قد ذهب هناك كى يدشن هذا التحول، ولو دون إعلان صريح، وترك حديثه يتفاعل ليثير الجدل المطلوب، بهدف وضع الصين داخل مربع «التخمين» حول الخطط الأمريكية وما ستفعله حيال غزو متوقع من الصين على تايوان، ولهذا سارعت الخارجية الصينية بصك مصطلح «اللعب بالنار» فى توصيفها للحديث الأمريكى، وانتحت كعادتها جانبًا كى ترقب عن كثب ما جاء به الرئيس الأمريكى لكوريا الجنوبية، وما ستستحدثه واشنطن على مائدة تحالف «الكواد» الرباعى، الذى يضم معها اليابان والهند وأستراليا. فكلتا الفعاليتين ستقدم لبكين حتمًا كتاب فك الشفرة لـ«الغموض» الذى ظل راسخًا لعقود، ما إذ كان سيتمدد أم تنقضه واشنطن على خلفية الطرق على الحديد الساخن هناك، على الحدود الروسية الأوكرانية.