جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

نصب متكرر للمستريح 2 لماذا يسقط المصريون فى «فخ النصابين» دائمًا؟

قبل أن تقرأ

من المثير للدهشة أن تتكرر أحداث النصب والاحتيال على فترات متقاربة ويتساقط الضحايا وراء الضحايا، وتذاع هذه الحوادث على كل وسائل الإعلام، ويسمعها ويشاهدها جميع الناس، ومع ذلك يقعون مرات ومرات ضحايا للمستريحين الذين تتغير أسماؤهم وصفاتهم، ولكن الفكرة واحدة، وهى أن النصاب يسعى لكسب سريع وهو مستريح، والضحية ينتهز الفرصة أيضًا لكسب سريع وهو مستريح، إذن فلفظ «المستريح» يطلق هنا من الناحية النفسية على الجانى والضحية، حتى وإن كان الجانى يفعلها بخبث، بينما الضحية يقع فيها ببراءة أو تحت تأثير طمع جامح أو احتياج ملح، وقد تكرر هذا المشهد فى صورة شركات توظيف الأموال قديمًا، وتكرر بعد ذلك فى صور مختلفة، حتى وصلنا إلى الحدث الأخير وهو «مستريحين الصعيد»، مع تغيير نوعى هذه المرة، وهو ظهور عدد من المستريحين بلغ أكثر من عشرة دفعة واحدة فى منطقة جغرافية صغيرة وفقيرة، ووسط أناس بسطاء أغلبهم فقراء أقنعهم هؤلاء المستريحون بشراء مواشيهم بضعف أو ثلاثة أضعاف ثمنها، وأعطوا للناس دفعات كبيرة من الأموال فصدقهم الناس واندفعوا بأعداد كبيرة متهافتين على هذا الكسب الكبير فى ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة، ثم بعد أن وثق فيهم الناس بدأوا يشترون بالآجل على أن يدفعوا المال بعد شهر أو أكثر، فدفع الناس إليهم مواشيهم بلا ثمن، وبلا ضمانات، انتظارًا للثمن الكبير الذى حصل عليه سابقوهم، فجمعوا المليارات واختفوا!.. واشتعلت نار الفتنة والثأر فى الصعيد بما استدعى جهودًا هائلة لوأدها، وربما اختار المستريحون هذه البيئة الفقيرة، فى هذه الظروف الصعبة، ليكون الناس أكثر قابلية للإيحاء والاستهواء والاستلاب. 

الصورة النمطية للنصّاب لدى عموم الناس هى أنه شخص شديد الذكاء والمكر والدهاء والخيانة وانعدام الخلق والضمير، وقد يكون الأمر كذلك فى بعض الحالات، ولكن القراءة العلمية لحوادث النصب تثبت بأن لكل نصّاب تركيبته ودوافعه وظروفه، ولذلك يحسن بنا أن نرى تلك التركيبة النفسية فى مظاهرها وانعكاساتها المختلفة، لكى نحيط بكل الجوانب التى يتميز بها النصّابون، فهم ليسوا سواءً، فقد نجد بعض الصفات التالية بتباديل وتوافيق مختلفة فى شخصية كل نصّاب:

السمات النفسية للنصّاب

الكذب هو الصفة المحورية والأساسية لدى النصّاب، ولكنه غالبًا ما يكون بارعًا فى كذبه، بحيث يمر وقت قبل أن يكتشفه من يتعامل معه، والكذب صفة لا تتخلف أبدًا فى أى نصّاب، أى أنها صفة مشتركة لدى كل النصابين على اختلاف تركيباتهم واتجاهاتهم، ولذلك يعتبر الكذب عيبًا جسيمًا فى الشخصية، لا يمكن التسامح فيه.

المراوغة والخداع والتضليل، وهى صفات ثانوية تنشأ عن الصفة الأساسية وهى الكذب.

المبالغة، وتعنى المبالغة فى الحديث عن الأمانة، والإخلاص، والقيم، أو المبالغة فى التلويح بالمكاسب الهائلة.

الاستهانة بالنظم والقوانين والأعراف، حيث يُبدى النصّاب قدرة فائقة على تجاوز كل العقبات القانونية والاجتماعية للوصول لأهدافه، وهو يميل لأن يسلك طرقًا خلفية لتحقيق ذلك.

التاريخ الطولى المضطرب، إذ لا تظهر شخصية النصّاب فى يوم وليلة، وإنما تتكون عبر تراكمات لسلوكيات تنتهك الحقوق والممتلكات، فمثلًا نجد أن النصّاب كان مشهورًا بالغش فى الامتحانات، ومشهورًا بالكذب، ومشهورًا بالسرقة من البيت أو من زملائه فى المدرسة، ومولعًا بالحصول على ما يريده بالرشوة، أو بالوساطة، أو بالتزوير، أو بالخداع. وهو غير مستقر انفعاليًا، إذ تجد تقلبات كثيرة فى حياته، فينتقل من بلد إلى بلد، أو من علاقة إلى علاقة، ولديه تاريخ سابق فى الفشل فى مشروعاته.

الطموح المفرط، وهذا ما يجعله فى حاجة شديدة إلى مال كثير يجمعه فى وقت قليل، حيث لا يوجد لديه وقت للسعى بالطرق المعتادة؛ ليجمع مالًا محدودًا فى فترة زمنية طويلة.

إعلاء مبدأ اللذة، فهو يسعى لتحقيق أقصى قدر من الاستمتاع فى حياته، فتراه يهتم اهتمامًا مبالغًا فيه بالسيارة التى يركبها، والمسكن الذى يعيش فيه، وملابسه وشياكته، والأماكن التى يرتادها، والأصدقاء الذين يجلس معهم. وفى المقابل هو لا يعطى لمبدأ الواقع قيمة، فهو أسير فقط للذاته واحتياجاته، بصرف النظر عن أى اعتبارات اجتماعية أو أخلاقية أو قانونية.

لا يشعر بالذنب، فمهما كان عدد ضحاياه، ومهما كانت معاناتهم من سلوكه، فهو لا يشعر تجاههم بأى ذنب أو تعاطف.

لا يتعلم من أخطائه، ولهذا نجد فى حياته الكثير من محاولات الكذب والتضليل، ورغم تعرضه لمشكلات اجتماعية أو قانونية لا يكف عن تكرار أفعاله السلبية.

قدرة فائقة على معرفة نقاط ضعف الضحايا، وتوظيف هذه النقاط الضعيفة لكى يتمكن من استغلالهم، فهو يختار ضحاياه من الطامعين فى المكسب السريع مثله.

قدرة فائقة على طمأنة الضحايا من خلال إعطائهم ضمانات وهمية، كعلاقاته ببعض الشخصيات الموثوق بها، وإبداء ميزانيات تبدو مقنعة، وأصول تبدو كافية لتغطية احتياجات الضحية فى حال فشل المشروعات المعروضة.

النرجسية، بمعنى الإفراط فى حب الذات وتقديرها، والشعور بالتفرد والتميز، والرغبة فى التألق والظهور والإبهار، والتمركز حول الاحتياجات الشخصية، وكل هذه الأشياء تجعل الشخص النرجسى فى حاجة إلى كثير من المال؛ للإنفاق على ذاته المتضخمة ليحقق الإبهار لمن يراه.

الشعور بالنقص، وهو دافع لعمليات تعويض يقوم بها الشخص لمواجهة هذا الشعور، فيضطر لأن يبالغ فى امتلاك عناصر القوة وإظهارها «طبقًا لنظرية ألفريد أدلر»، وبما أن المال يعتبر أحد أهم عناصر القوة، إذن يصبح الحصول عليه هدفًا أعلى. والشعور بالنقص يلازمه شعور بالدونية تجاه الآخرين، وهذا يدفع من يشعر بالنقص إلى أن يسلب الآخرين مصدر قوتهم «المال» ويضيفه إليه.

غواية المال، فالنصاب يضعف تمامًا أمام أى قدر من المال، كما يضعف أى مراهق أمام فتاة إغراء، وهى غواية لا يستطيع مقاومتها بسهولة، وهو لذلك دائم السعى وراءه والاحتيال من أجل الوصول إليه.

تعود الأخذ دون عطاء، فمنذ صغره يحصل على كل ما يريده من أبويه أو غيرهما دون بذل جهد، لذلك تتضخم عنده مستقبلات الأخذ، وتضمر عنده ملكات العطاء، ولهذا نجده شديد الشراهة للأخذ ولا يشبع أبدًا، وهو قد تعود أن يحصل على ما يريده من أيدى الآخرين وليس بجده وتعبه وكفاحه، فالآخرون بالنسبة له مكلفون بإعطائه ما يحتاج وكأنهم مدينون له دائمًا.

البذخ والرفاهية، فهو يعيش بشكل مبالغ فيه من الأبهة والفخامة والترف، ولا يهمه من أين يأتى المال؛ لتوفير كل ما يرتع فيه من مظاهر.

ضعف الانتماء، ويظهر فى هشاشة علاقة الشخص بأسرته وبمجموعة الرفاق أو الأصدقاء، بل وفى علاقته بالوطن أو الناس عمومًا، ولذلك يسهل على النصاب الحصول على المال، ثم الهروب به إلى أى مكان فى الأرض، ليستمتع به ولا يشعر بفقدان للأهل أو الوطن.

ضعف العلاقة بالواقع، فلا يستطيع النصّاب رؤية الفرص المتاحة للكسب الطبيعى، كما لا يستطيع إدراك المخاطر التى تحيط بسلوكه المنحرف، فهو فى حالة إنكار وانعدام رؤية إلى أن يقع فى المحظور.

الرغبة فى الإثارة، وتلك الرغبة تتحقق أكثر من خلال عمليات النصب والاحتيال، خاصة حين يستطيع النصّاب خداع شخصيات تتميز بالذكاء العالى، كما أن العمل خارج نطاق المألوف يعطيه إحساسًا بالمخاطرة اللذيذة، والتحدى الذى يشعره بقوته، وأنه قادر على أن يسلب الآخرين قوتهم.

الانتقام، وهذا يظهر لدى النصّابين الذين ينتقون ضحاياهم من الطبقات الاجتماعية الأعلى ومن الأغنياء عمومًا، فلديهم إحساس داخلى بأن هؤلاء حصلوا على أموالهم بغير حق، ولذلك يشعرون بمتعة وهم يسلبونهم تلك الأموال.

السادية، وهى شعور بالسعادة واللذة لرؤية الضحايا وهم يتألمون ويعانون بعد أن سلبهم النصّاب أعز ما يملكون وهو المال، أى أن النصّاب هنا يستمتع مرتين، مرة وهو يستحوذ على المال، ومرة أخرى وهو يرى دموع الضحايا وحسراتهم، ولذلك لا نستغرب رؤية النصّابين، وهم يعيشون خارج البلاد يستمتعون بثرواتهم التى نهبوها، وهم فى غاية السعادة، ولا ينتابهم أى شعور بالندم أو الألم

ضعف الأنا الأعلى، فالنصّاب ليس لديه ضمير كافٍ يردعه، وضعف الضمير هنا يحميه من الشعور بالذنب، ويسمح له بالاستمرار فى عمليات النصب مدفوعًا بالاحتياجات البدائية للجزء الغرائزى البدائى فى النفس «الهوى».

الفن فى إعطاء الوعود للضحايا دون الوفاء بها، وهو يعتمد على التسويف وعلى نسيان الضحايا لوعوده السابقة التى لم يفِ بها.

الإنكار والتبرير والإسقاط، وهى دفاعات نفسية لا شعورية تسهل للنصّاب استكمال نصبه، وتحميه من لوم الذات أو صحوة الضمير، فهو لا يرى فيما يفعله شيئًا خطأ، ويبرر كل أعماله أمام نفسه وأمام الآخرين بأنها مشروعة تمامًا، ثم يسقط الأخطاء والمشكلات على الآخرين، أما هو فليس مسئولًا عن شىء مما حدث، ولذلك حين تستمع لأى نصّاب أو «لمحاميه» تشعر أنه لم يخطئ فى شىء قط، وإنما الضحايا هم المخطئون، أو أن الظروف هى السبب.

جمعت بلوم «١٩٧٢» سمات النصابين وحاولت وضعها تحت نمطين مشهورين من أنماط الشخصيات:

-  اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع.

-  اضطراب الشخصية النرجسية.

وهذا يكاد يكون صحيحًا إلى حد كبير، وما نراه فى الواقع هو فعلًا مزيج من سمات هذين النمطين من اضطرابات الشخصية. وقد وجد أن اضطراب الشخصية النرجسية فى عموم الناس فى حدود ١٪، أما فى النصابين فنجد أن السمات النرجسية توجد فى أكثر من ٨٠٪ من الحالات، أما اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع فهو أيضًا فى حدود ١-٣٪، ولكنه يوجد فى النصابين بنسبة قد تصل إلى مائة بالمائة، وليس شرطًا أن يوجد نمط الشخصية بالكامل، ولكن على الأقل يوجد عدد من السمات المرتبطة بهذا النمط. وفى المجتمعات المتخلفة تكثر السمات النرجسية والسمات المضادة للمجتمع، وهذا يفسر لنا شيوع النصب والاحتيال فيها على المستوى السياسى والاقتصادى والاجتماعى.

السمات النفسية للضحايا

الصورة النمطية لضحية النصب– كما تأتى فى الأفلام القديمة– هى القروى الساذج، أو الشخص العبيط الغرير، أو كبار السن، أو منخفضو الذكاء عمومًا، وهذا جائز فى عمليات النصب البدائية التى يقوم بها هواة ويستخدمون وسائل بسيطة، أما فى هذا العصر فإن ضحايا النصب قد يكونون غاية فى الذكاء، وعلى قدر كبير من التعليم والثقافة، وقد يكونون رجال أعمال لديهم خبرة كبيرة بالسوق وطباع البشر، وهنا يحتاج الأمر إلى نصّابين محترفين من نوع خاص يستطيعون استمالة واستهواء واستلاب هذه النوعية من البشر، ويستطيعون تحييد دفاعاتهم وتخدير حذرهم وحرصهم، ويستطيعون اللعب على نقاط ضعفهم، وبهذا ينجحون فى خداعهم. وكما فى سائر الجرائم يلعب الضحية فى جرائم النصب والاحتيال دورًا مهمًا وإيجابيًا فى حدوث الجريمة بوعى أو دون وعى، وبناءً على التركيبة النفسية للضحية نستطيع أن نقسمهم إلى أنواع مختلفة:

١– الطمّاع: وهو قد يكون أكثر طمعًا وجشعًا من النصّاب، وهنا يلتقط الأخير فيه هذه الرغبة المتوحشة فى الثراء فيلوح له به، ويلعب على نقطة ضعفه بمهارة شديدة، وينجح فى استثارة غريزة التملك لديه. وحين تستثار غريزة التملك يتم استبعاد العقل النقدى بدرجات متفاوتة تسمح للنصّاب بنصب شباكه حول الضحية، مهما كان ذكاء الأخير وفطنته، 

والطمّاع لديه شراهة هائلة للمال، وتلك الشراهة تجعله لا يصبر على تنمية أمواله بالطرق المستقيمة المعهودة، بل يريد طرقًا جديدة وغير مألوفة، وهنا فقط يقبل المغامرة والمخاطرة لتحقيق كسب سريع بأقل جهد ممكن، وحبذا لو كان بغير جهد تمامًا، وفى تلك الظروف يقل حرص الطمّاع وحذره، وهنا يدخل النصّاب عليه فيجده جاهزًا للتسليم على الرغم من ذكائه وحرصه المتوقع.

٢– الكسول «الاعتمادى السلبى»: وهو يسلم أمواله للنصّاب بهدف استثمارها كنوع من الاستسهال لديه، لأنه لا يريد أن يتعب نفسه فى استثمارها، ولا يكلف نفسه حتى عناء البحث والتقصى عن تاريخ وسلوك النصّاب، بل إنه يرضى بأى ضمانات يمنحه إياها النصّاب، ويقنع نفسه بكفايتها وفاعليتها حتى لا يكلف نفسه الكسولة مزيدًا من المشقة.

٣– الساذج: وهو بطبيعته قليل الذكاء يسهل التغرير به وخداعه، ولا يحتاج مجهودًا من النصاب غير أن يعطيه فقط إحساسًا بالأمان والرعاية والتقدير، وبما أن الساذج يفتقد لهذه الأشياء فهو ينظر للنصّاب على أنه شخص طيب يمكن الوثوق به.

٤– المحتال: ويحتاج هذا النوع من الضحايا لنصّاب أكثر قدرة منه على الاحتيال، وهنا تحدث مباراة فى النصب والاحتيال يفوز بها الأكثر دهاءً وذكاءً ومراوغة. والضحية المحتال تعود فى حياته أن يكسب من الطرق الخلفية، لذلك فهو لا يشعر بالغربة حين يتعامل مع النصّاب، إذ إن أصل ثروته كان غير مشروع وجاء من طرق غير معهودة، وهو قد ألِف تلك الطرق، بل إنه لا يطيق غيرها، إذ تعود أنها الأسرع والأسهل لجمع المال.

٥– المستفز: وهذا النوع يعيش حياة كلها ترف وبذخ، ويُظهر ثراءه بشكل يجمع حوله النصابين والمحتالين، حيث تستمر محاولاتهم للإيقاع به، وتواتيهم الفرصة فى وقت ما وفى ظروف ما تضعف دفاعات الضحية، فينفذون إليه من أى جانب. والمستفز لديه شراهة هائلة للاستهلاك، ومن هنا يكتشفه النصابون، بينما هو يقوم بالإنفاق ببذخ فيسيل لعابهم لماله.

البيئة الحاضنة للنصب والاحتيال

هناك بيئة نستطيع وصفها بأنها بيئة محرضة على النصب والاحتيال، وهذه البيئة لها خصائص نذكرها فيما يلى:

١– الفساد: حيث ينتشر فى كثير من جوانب الحياة، فيبدأ الأطفال أول دروسهم فى النصب من خلال الغش فى الامتحانات، فيتعلمون منذ نعومة أظفارهم أن يحصلوا على أشياء دون بذل جهد أو تعب، وهم يجدون تشجيعًا من ذويهم ومن المجتمع على ذلك، ويعتبرون ذلك شطارة وفهلوة، فيكبرون وقد تطبعوا على ذلك فيكملون طريقهم بالرشوة والسرقة والاختلاس وتزوير الانتخابات واغتصاب السلطة، أى سلطة.

٢ – الحرمان: والحرمان هنا أمر نسبى، إذ ليس بالضرورة أن يكون النصّاب فقيرًا أو معدمًا، وإنما يكفى شعوره الشخصى بالعوز والفقر حتى ولو كان غنيًا، فالأمر هنا نسبى ويعتمد على إدراك الشخص لحاجاته ونواقصه، والحرمان ليس مقصورًا على الحرمان المادى، بل قد يكون حرمانًا من الأمان أو حرمانًا من الحب، أو حرمانًا من التقدير الاجتماعى، أو حرمانًا من تحقيق الذات، أو غيره من أنواع الحرمان، وهنا يتجه الشخص للنصب؛ للحصول على أموال الآخرين بهدف إشباع ذلك الحرمان، ويصبح المال هنا وسيلة رمزية للإشباع عن حرمانات متعددة.

٣ – عدم الأمانة: بمعنى أن تصبح الأمانة شيئًا ثانويًا أو هامشيًا فى المجتمع، فتجد صاحب السلطة يسىء استخدام سلطته، والطبيب ليس أمينًا مع مرضاه، والمحامى يمارس أقصى درجات الخداع والتمويه وربما التزوير، والمهندس لا يراعى الله، ولا يراعى ضميره فى مواد البناء، والحرفى لا يتقن عمله، والقاضى غير محايد.

٤– الطمع: فكل إنسان يريد أن يحصل على أقصى ما يمكن، وأن يتفوق على أقرانه فى الامتلاك والملكية، وأن يتباهى بما لديه، وأن يشعر بالأمان كلما تضخمت ثروته «أو يوهم نفسه بذلك». وحين تستعر غريزة التملك لا يمكن أن يطفئها مال، فهناك اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال، ولو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب.

٥ – نمط الحياة: كأن تكون لدى الناس شراهة استهلاكية تدفعهم للتورط فى شراء واقتناء أشياء كثيرة تفوق قدراتهم، فيضطرون للاقتراض ثم للنصب، وربما للسرقة أو الاختلاس أو حتى القتل، أو يكون الشخص من المقامرين أو المدمنين، حيث تزيد الحاجة للمال عما تتيحه فرص الكسب الطبيعى، أو تكون لدى الأشخاص رغبة فى الظهور بمظهر الثراء، أو الكرم الزائد كنوع من المباهاة الاجتماعية.

٦– ضعف القوانين وبطء التقاضى: مما يمنح النصّاب فرصة للاستفادة من ثغرات القوانين ومن يأس الناس من الحصول على حقوقهم عن طريق القضاء.

٧– شيوع قيم الفهلوة واعتبارها نوعًا من المفهومية والشطارة والذكاء.

ولكى نرى جريمة النصب فى المجتمع المصرى، وندرك خطورة شيوعها وانتشارها، ثم نتحدث عن علاجها فلا بد أن نرى جذورها وتشعباتها ومكافآتها المختلفة، فنرى مبكرًا جريمة الغش فى الامتحانات، ونرى جريمة الوساطة والرشوة، ونرى جريمة تزوير الانتخابات، فكلها جرائم متصلة يكمن خلفها الكذب وسلب الحقوق والعدوان على الآخر والتلذذ بنهبه، ولا يمكن علاج النصب فى الأموال دون تنقية وتنظيف الضمير ثم المجتمع من كل هذه الانحرافات الأخلاقية والسلوكية، التى يتورط فيها مجرمون تقليديون فى بعض الأحيان، ويتورط فيها مجرمون غير تقليديين ذوو ياقات بيضاء ومراكز برّاقة فى أغلب الأحيان، وهذا الفريق الأخير هو ما يطلق عليه «السيكوباتى المهذب».