جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الغارمات.. كفاح وأحلام مسجونة

تقول الإحصاءات الرسمية إن عدد الأسر التى تعولها النساء فى مصر يبلغ ٣.٣ مليون أسرة «إحصاء ٢٠١٧»، ٦٠٪ منهن من الأميات واللاتى غالبًا ما يتجهن للعمل كعاملات فى المنازل للإنفاق على أسرهن.. وبغض النظر عن العوامل التى تدفع الأزواج للبقاء فى البيوت أو الهرب وإلقاء مسئولية الأسرة على هؤلاء السيدات.

إلا أننا نجد أنفسنا إزاء ظاهرة أخرى مركبة تنتج من الظاهرة الأصلية «تصدى السيدات للإنفاق على الأسر وهروب الرجال من المسئولية».. هذه الظاهرة هى ظاهرة «الغارمات».. فبعض النساء لم يكتفين بتلبية مطالب الأبناء الطبيعية فى الطعام والشراب والملبس والتعليم.. لكن تورطن فى نفقات مبالغ فيها لتجهيز البنات والأبناء أحيانًا قبل الزواج.. هذا التورط يأتى فى سياق ثقافة سائدة منذ سنوات تحتفى بالمظاهر وتعظم الاستهلاك وتربط قيمة العروس لدى زوجها بمقدار ما ينفقه أهلها لتجهيزها، وكان البسطاء يمارسون الاستعلاء الطبقى ضد بعضهم البعض بدلًا من أن يتضامنوا ويخففوا عن بعضهم مصاعب الحياة.. ويزيد من مأساة «الأم الغارمة» تجار التقسيط الجشعون من صائدى ضحايا الأمنيات الصعبة.. فكل الأحلام لاقتناء الأدوات الكهربائية فى منزل الابنة أو حتى فى منزل المرأة العاملة نفسها تتحقق «بالقسط»، وتمر السنوات والصحة تتراجع حتى تصبح الحياة متهالكة بين مصاريف المعيشة وأبناء يكبرون واحتياجات تزيد.. وتتنوع الديون بين دروس خصوصية لعدد كبير منهم وبين جهاز البنت التى كبرت وتحتاج إلى جهاز ضخم يتم استعراضه حين يُنقل من بيت أصبحت جدرانه تئن من ديون أثقلت فرحة «أم العروسة».. وهنا أستعير عنوان ذلك الفيلم الشهير الذى عرض مأساة الاستدانة من أجل تجهيز الابنة ولعب بطولته الراحلان العظيمان عماد حمدى وتحية كاريوكا عن قصة لعبدالحميد السحار وإخراج عاطف سالم، الذى انتهى بنجاة الأب الطيب عماد حمدى من السجن بعد اختلاسه من العهدة الرسمية وقيام زميله الطيب بسداد العجز بدلًا منه. ولعل الفارق بين عام إنتاج الفيلم «١٩٦٣» والآن أن «الأب» وقتها مارس مسئوليته الطبيعية تجاه أسرته.. بينما تتصدى الأمهات الغارمات حاليًا للمسئولية فيوقعن إيصالات الأمانة لتمويل جهاز الفتيات المبالغ فيه.. لا توجد فى الفيلم شواهد عن مبالغة فى جهاز الابنة التى تنتمى للطبقة الوسطى، وإن كنا نرى لمحات من عنجهية أم العريس وفق «الكتالوج» المعتمد لشخصية الحماة فى السينما المصرية.. لكننا عبر كل هذه السنوات نرى أن ظاهرة المبالغة فى الجهاز قد انتقلت من الطبقة الوسطى إلى الطبقات الأقل اقتصاديًا، وهو ما لم يكن يحدث فى الماضى.. بل إن المبالغة أصبحت سمة الزيجات فى الطبقات الشعبية بأكثر مما هى فى الطبقة الوسطى.. وقد نتج عن هذا غرق الأمهات المعيلات فى الاستدانة وأصبحت السجون مليئة حسب الإحصاءات الأخيرة بحوالى ٣٠ ألف غارمة تعملن فى قطاعات لا تتسم بالاستمرارية، فالديون يتعثر سدادها لأى سبب مثل الإصابة بمرض يضطر الغارمة للتوقف عن العمل وانقطاع الراتب، أو قد يكون زوجها قد هرب بالمال الذى اقترضته وترك لها إعالة الأبناء.. القصص كثيرة والمآسى لا تُحصى لسيدات أمضين سنوات فى السجن بسبب قلة الوعى أو التصدى لمسئولية كبيرة.. فالمرأة المعيلة حين تضع بصمتها على أوراق الاستدانة لا تعلم أنها تضع بصمة الألم والمعاناة فى حياتها وحياة أولادها. تلك البصمة تكلف الدولة المصرية أيضًا ملايين الجنيهات نفقات إعاشة هؤلاء السيدات فى السجن.. وتكلف القطاع الخيرى ملايين أخرى لتسديد ديون هؤلاء الغارمات والإفراج عنهن.. وقد تكررت توجيهات الرئيس السيسى على مدى السنوات الماضية بتسديد ديون الغارمات والإفراج عنهن فى مواسم سنوية منتظمة.. وكان آخرها مبادرته إلى وزارة التضامن الاجتماعى قبيل عيد الفطر الماضى بتخصيص ٣٠ مليون جنيه من صندوق «تحيا مصر» لإخراج الآلاف منهن من بين جدران السجون وإيجاد حل جذرى لمشكلة الغارمات، وإذا أخذنا فى الاعتبار أن الدولة تقوم بسداد ديون الغارمات منذ عام ٢٠١٥.. وأن السجون تعود للامتلاء بهن مرة أخرى.. فإن هذا يدفعنا للتفكير فى حل جذرى لهذه الظاهرة التى تجمع ما بين تضحية الأمهات من جهة واستسلامهن للمظاهر من جهة ثانية وجشع بعض التجار من جهة ثالثة وتلاعب بعض عصابات الاتجار بالغارمات من جهة رابعة.. وأظن أن تكرار امتلاء السجون بالغارمات يجعل من سداد ديونهن بشكل سنوى حلًا مؤقتًا عالى التكلفة بلا ضمان لعدم تكرار المشكلة. 

والحل الأمثل من وجهة نظرى هو حملة توعية إعلامية ودينية واجتماعية ودرامية تقبح فكرة المغالاة فى نفقات الزواج، وتقول للبسطاء إن قيمة العروس ليست فى المفروشات التى تصحبها إلى منزل الزوجية ولكن فى تربيتها وأخلاقها، وتقول للعروسين إن السعادة ليست فى فرش المنزل ولكن فى العلاقة الجيدة والمحترمة بين الزوجين، وتقول للمرأة المعيلة إنه يكفيها شرف تعليم ابنتها وإيصالها لبر الأمان وإنها ليست مطالبة بتجهيزها بعشرات الألوف من الجنيهات لتضمن لها احترام عائلة الزوج وتقديرها.. مع ملاحظة أن الدولة قدمت الكثير من المبادرات لتخفيف الأعباء عن كاهل هذه الفئة من النساء المكافحات.. وفى عام ٢٠١٩ على سبيل المثال دشن صندوق «تحيا مصر» مشروع «دكان الفرحة» لتجهيز الفتيات المقبلات على الزواج ورفع عبء الجهاز عن الأمهات المعيلات.. وأطلقت وزارة التضامن برنامج «مستورة» الذى يتيح منح قروض متناهية الصغر تعين المرأة المعيلة على تمويل احتياجاتها الأسرية دون الوقوع فى شباك «تجار الكمبيالات». 

جميعها خطوات مهمة.. لكنها البداية فى طريق طويل لإنصاف ما يقرب من ٢ مليون امرأة مصرية ينفقن على أسرهن من حصيلة «الشقا» اليومى، الظاهرة تكونت عبر عقود من الإهمال والسياسات الاجتماعية الخاطئة.. والدولة تجد نفسها الآن مطالبة بحل جذرى وأخير لها.