جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

تعليق على ما حدث فى الغرفة «8» العشاء الأخير مع أمل دنقل

 

«أقول لكم: أيها الناس كونوا أناسًا»!

 «القاهرة 1983»

فى صباح يوم السبت ٢١ مايو من ذلك العام خرجت علينا صحف هذا النهار: «بيروت تستعد للسلام مع إسرائيل»، و«توفيق الحكيم يطلب من النيابة التحقيق فى اتهامات الشيخ الشعراوى له بسبب مقال حديث مع الله الذى نُشر بالأهرام»، و«أسرة شاه إيران رضا بهلوى تُفكر فى نقل جثمانه من جامع الرفاعى بالقاهرة إلى لوس أنجلوس»، و«بنك القاهرة يُعلن عن بيع قطع أراض فى المقطم الهضبة العليا سعر المتر ٧٥ جنيهًا بالتقسيط المريح كاملة المرافق»، و«سعر الجنيه يرتفع والدولار ينخفض بعد ما أصبح سعر الدولار بين ١١٠ قروش و١١٢ قرشًا». 

والحكومة على لسان الدكتور مصطفى السعيد، وزير الاقتصاد، تتوقع «مزيدًًا من الاستقرار للجنيه أمام الدولار!»، و«درجة الحرارة ٣١ بالقاهرة»، و«نادى السينما يعرض الليلة فيلم (اضغط على الرصاصة) بطولة جين هاكمان. تقديم درية شرف الدين»، و«سينما بيجال تعرض فيلم (الغيرة القاتلة) بطولة نور الشريف ونورا»، و«كازينو الليل بالهرم يقدم سهرة مع شريفة فاضل ومحمد قنديل»، و«إحسان عبدالقدوس يؤكد: كنت أعيش فى حماية عبدالناصر»، و«قسم شرطة مصر الجديدة يتلقى بلاغًا عن تسلل شاب إلى غرفة خلع الملابس فى محل عمر أفندى فرع روكسى بعدما ظل متواريًا خلف الفساتين من الصباح حتى الظهر يراقب حركات النساء أثناء تغييرهن ملابسهن»، و«وزير الداخلية حسن أبوباشا يصدر قرارًا بإصدار بطاقة (وادى النيل) لاستخدامها فى التنقل والإقامة ما بين القاهرة والخرطوم»، و«نيابة إيتاى البارود محافظة البحيرة تحقق فى وفاة مزارع عمره ٧٠ سنة سقط من على الفراش أثناء نومه»! 

«قصدتهم فى موعد العشاء تطلعوا لى برهة. ولم يرد واحد منهم تحية المساء»!

«معهد الأورام 1983»

كانت هذه بعض أخبار القاهرة فى الصحف الصادرة هذا الصباح قبل أن يتسرب للبعض خبر آخر مؤلم وحزين. سكان القاهرة والعواصم العربية، والمدن والبنادر والقرى والنجوع والكفور والحيطان والشوارع والمزارع والمصانع بكل ما فيها ومَن فيها بدأوا يسترقون السمع من كل المصادر. هل حقًا مات الشاعر؟! «منذ أن مات نجيب سرور ويحيى الطاهر عبدالله وصلاح عبدالصبور. ومنذ أن مات المتنبى وأبوالعلاء. ومنذ أن مات الحلاج وهمنجواى وجاليلو وشى جيفارا وأنا أتساءل التساؤل للكاتب الراحل يوسف إدريس: لماذا يموت الشاعر»؟ هل حقًا مات الشاعر؟ نعم.. الآن.. عند الساعة الثامنة من نهار ذلك اليوم الحزين، وفى هذه الدقائق الحزينة.. مات أمل دنقل! 

«هل يصل الصوت؟

أم يصل الموت»؟ 

قبل وصول الموت، وصل الصوت، صوت أمل دنقل قائلًا: 

فاشهدْ لنا يا قلمْ

أننا لم نَنَمْ

أننا لم نقف بين «لا» و«نعمْ»   

«أيتها العرافة المقدَّسة..

جئتُ إليك.. مثخنًا بالطعنات والدماءْ» 

 «معهد الأورام 1983»

فى الدور السابع بالغرفة «٨» يتمدد الشاعر أمل دنقل «ولد فى ٢٣ يونيه ١٩٤١ وعرف كشاعر فى بداية الستينيات، واشتهر بلقب أمير شعراء الرفض «أصدر مجموعة من الدواوين: (مقتل القمر/ البكاء بين يدى زرقاء اليمامة/ تعليق على ما حدث/ العهد الآتى/ أقوال جديدة عن حرب البسوس/ أوراق الغرفة (٨)/ قصائد متفرقة)، هو الآن يشاهد التليفزيون الذى يذيع حلقة من برنامج ثقافى شهير اسمه (أمسية ثقافية)، يقدمه صديقه الشاعر فاروق شوشة».

دعا شوشة ضيفه الشاب سماح عبدالله السماح إلى تقديم قصيدته. تحدث الشاب قبل إلقاء القصيدة قائلًا: «أتمنى لو أن الشاعر أمل دنقل يستمع إلينا الآن لأنها مهداة إليه» قرأ السماح قصيدته، التفتت عبلة الروينى إلى أمل فى سعادة وفرح بعدما استطاعت قصيدة من شاب صغير أن تكسر كل ملامح الكآبة، وتعيد إلى زوجها الهدوء والسكينة والفرح، ثم خاطبت فى بهجة الشاعر الصغير- الذى لا تعرفه ولا يعرفه أمل - أمام الشاشة قائلة: أنت جميل!

بعد دقائق غادرت عبلة الغرفة لمتابعة بعض الأمور العالقة مع الفريق الطبى المعالج، وإدارة المستشفى. أمل دنقل مستغرق فى كتاب يقلب صفحاته. وبين لحظة وأخرى يُعاود النظر للغرفة التى استقر فيها أخيرًا فى حالة صراع مرير ما بين الموت والحياة! «على الجدران صور ملونة، ولوحات كاريكاتيرية، وقصائد شعر. أمام عينيه مباشرة صورة صديقه الأديب يحيى الطاهر عبدالله (مات فى حادث مأساوى فى صحراء الوادى الجديد قبل شهور!) معلقة على الحائط!. على الجدار بطاقة من الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات تحمل تمنيات الانتفاضة له بالشفاء العاجل».

«نحن جيل الألم

لم نَرَ القدس إلا تصاوير

لم نتكلّمْ سوى لغة العرب الفاتحين

لم نتسلَّمْ سوى راية العرب النازحين،

ولم نتعلَّمْ سوى أن هذا الرصاص

مفاتيحُ بابِ فلسطين» 

«الغرفة- بعد 10 دقائق»

ـ أهلًا.. أهلًا! يقولها أمل لطفل صغير اقتحم غرفته عمره ٤ سنوات تقريبًا مُصاب بسرطان الدم. اسمى كريم وبابا شاعر.

ـ ما اسمه؟

ـ محمد سيف «شاعر عامية مصرى»! يجلس الطفل بالقرب منه، ويسأله فى براءة طفولية مدهشة: «أنت اسمك إيه؟

أمل دنقل!

- عندك سرطان زيى برضه؟

- هز رأسه مبتسمًا ومجيبًا: «أيوه يا سى كريم»! 

بعد دقائق غادر الطفل الحجرة لحظة انتهاء حلقة «أمسية ثقافية» وبدأ ظهور المطرب محمد قنديل على الشاشة ليُغنى. أمل يعاود النظر إلى حوائط الحجرة أمامه حتى وقع بصره على «رسم كاريكاتيرى لجورج البهجورى حاملًا بعض باقات الزهور أرسلها له خصيصًا من باريس» الآن محمد قنديل بدأ الغناء: «يا ناعسة/ يا ناعسة/ يا أم العيون الهامسة/ يا أم الرموش/ تقتل/ ولا ينفع معاها مسايسه» بعد لحظات عاد الطفل مرة جديدة وجلس بالقرب منه». 

ـ «أهلًا يا رفيق» 

دخلت الممرضة ومعها وجبة العشاء. أشار لها فوضعتها على ترابيزة قريبة من السرير!

- تأكل معى يا كريم؟

- لا.. ماليش نفس!

- وأنا كذلك!!

أمل يعاود التركيز مع الأغنية لحظة دخول صديق له «كان يزوره يوميًا أكثر من عشرين زائرًا، هو الكاتب الصحفى السعودى خالد الهميل».

أهلًا.. أهلًا. رد خالد: «جئت من المطار إليك مباشرة ومعى صحيفة الجزيرة التى نشرت لك حوارًا مبهرًا على صفحتين منذ أيام». بعد دقائق غادر الطفل كريم الغرفة، فيما دخل مسرعًا عبدالرحمن الأبنودى: «إزيك يا أمل»؟ لم يرد لأنه كان منشغلًا عنهما بكلمات الأغنية التى مازال محمد قنديل يغنيها: «يا ناعسة.. يا ناعسة.. لا.. لا.. لا/ خلصت منى القواله/ والسهم اللى رمانى/ جتلنى لا محالة» أمل يردد مع قنديل بصوت مسموع: «والسهم اللى رمانى/ جتلنى لا محالة»! بعدما انتهت الأغنية طلبها من الأبنودى وهى من تأليفه على شريط كاسيت ليسمعها مرة أخرى. هز الأبنودى رأسه: «حاضر يا أمل»! 

 

«أيُّها الواقفون على حافة المذبحة أشْهرِوا الأسلحة! سقط الموتُ، وانفَرطَ القلبُ كالمسبحة»

«الغرفة- بعد30 دقيقة»

بعد دقائق حضرت الصحفية اعتماد عبدالعزيز، لإجراء حديث معه متفق عليه منذ فترة. قالت: أريد أن أعرف ما الجوائز التى حصلت عليها؟ رد: فى عام ١٩٦٢ نلت جائزة المجلس الأعلى للآداب والفنون للشعراء الشبان. (كان عمره وقتها ٢٢ سنة) ورُشحت عام ١٩٧٢ لنيل جائزة الدولة التشجيعية، وتدخلت عوامل كثيرة لحجب الجائزة عنى!! عمومًا أنا لا أؤمن كثيرًا بمسألة الجوائز. وأنا لم أكن أبحث عن التكريم، لأننى لم أكن أعتبر نفسى شاعرًا بمعنى الكلمة، وإنما كنت أكتب ما أشعر به. والاعتراف الوحيد بك- كشاعر- ليس اعتراف الجوائز والتكريم، ولكن اعتراف الجماهير أولًا، ثم أردف قائلًا فى حسم: «لم أقف موقفًا فى حياتى ندمت عليه. كل مواقفى كانت بناءً على قناعات داخلية. وأنا على عكس ما يتخيل جميع الناس؛ لست منتميًا لجماعة أو تيار. فالأصل فى مواقفى أننى مقتنع بها شخصيًا أولًا. فلا يوجد لى موقف ندمت عليه، ولا توجد كلمة كتبتها أحسست بعدها أننى كنت خائنًا لنفسى أو لضميرى، بعد دقائق عادت عبلة الروينى. أشارت له بيدها. ابتسم لها فى هدوء ثم أكمل حديثه قائلًا: كل حياتى من بدايتها إلى نهايتها- صدقينى- متساوية. يمكنك أن تقولى إن موقفى من مظاهرات الطلبة سنة ١٩٧٢ـ لو هذا ما تقصدينه أعلنته وكتبته فى (الكحكة الحجرية) والتى كان نتيجتها أننى مُنعت عشر سنوات من التعامل مع الإذاعة والتليفزيون وجميع أجهزة الإعلام. وأغلقت القصيدة مجلة اسمها «سنابل» -التى نشرتها- وكانت تصدرها محافظة كفرالشيخ، ويشرف عليها الشاعر محمد عفيفى مطر. وعزلتنى هذه القصيدة من الاتحاد الاشتراكى رغم أنى لم أكن عضوًا فيه!، بعد دقائق عاد الطفل كريم واشتبك فى الحديث قائلًا: إيه الكحكة الحجرية دى يا عمو أمل؟! ابتسم الجميع فى هدوء وصمت لحظة مغادرة اعتماد عبدالعزيز الغرفة عائدة من حيث جاءت!  

«تأكلنى دوائر الغبار أدور فى طاحونة الصمت،  أذوب فى مكانى المختار»  

«الغرفة- بعد40 دقيقة»

كانت عبلة الروينى قد تأخرت لذهابها إلى غرفة الحسابات بالمعهد للتأكيد على غرفة مستقلة بمرافق. الموظفة فى تجهم قالت: «٧٠٠ جنيه»! ماذا تفعل عبلة الآن وليس معها سوى «٣٠٠ جنيه» بعد فترة صمت قالت الموظفة بنفس الجهامة والقتامة: «إذن غرفة دون مرافق»! مستحيل! هكذا صرخت عبلة فى وجهها: «كيف تمر الأيام وكلانا بعيد عن الآخر»؟، أصرت عبلة على الغرفة بمرافق. ومر أكثر من شهرين بعد ذلك أنفقا فيها «٣٥٠٠ جنيه»، وهذا كل ما كان يمتلكه. رئيس اتحاد الكتاب وقتها-ثروت أباظة- قرر بعد مطالبات من الكتاب والشعراء- مشاركة الاتحاد فى العلاج بمبلغ «١٠٠ جنيه» على أن يتقدم أمل بطلب و«التماس»!

«مُعلَّقُ أنا على مشانق الصباحْ

وجبهتى- بالموت- محنيَّة!

لأننى لم أحنها.. حَيٍّةْ»!

.. «وبالطبع لم يتقدم أحد بطلب أو (التماس).. بل «ولم يعلق أمل على ما حدث»!

«آه.. ما أقسى الجدار

عندما ينهض فى وجه الشروق

ربما ننفق كل العمر.. كى ننقب ثغرة

ليمر النور للأجيال.. مرة»!

«القاهرة- قبل أيام» 

حساب أمل فى خزنة المعهد لم يعد فيه سوى مائة جنيه.. من أجل ذلك كتب الدكتور يوسف إدريس مقالًا بالأهرام عنوانه: «بالله يا أمل لا تمت فكلنا فداؤك»، بعده صدر قرار من مجلس الوزراء بعلاج «المواطن أمل دنقل» على نفقة الدولة- بالدرجة الثانية- دون مرافق بنفقات قدرها «١٠٠٠ جنيه»- رفعت القيمة إلى «٣ آلاف» بعد ذلك- أمل رفض القرار، كما رفض من قبله الالتماس!، «وظل مستاءً طويلًا من مكاتبة مجلس الوزراء إليه التى جاء فيها صيغة: المواطن أمل دنقل نزيل معهد الأورام!، حاول بعض الأصدقاء طرح فكرة سفره للعلاج بالخارج لكنه «كان مقتنعًا بالعلاج فى مصر»، وتدخل بعض العواصم العربية- الرياض على وجه التحديد- بالإعلان عن تحمل نفقات علاجه، وعاد للقاهرة صديقه الكاتب الصحفى خالد الهميل، ومعه شيك للعلاج بعد نشره الأزمة فى صحيفة الجزيرة السعودية، وكشف فيها عن تقاعس القاهرة عن تحمل نفقات علاج واحد من أعظم شعراء مصر والعرب فى العصر الحديث. هذه المساعدات التى جاءت بحب وامتنان وتقدير له من الأصدقاء فى «السعودية والكويت» جعلته يومها «يبكى العجز.. والمرض.. والعذاب»!

«يا أيتها العرَّافة المقدَّسة ماذا تفيد الكلمات البائسة»

«الغرفة - بعد50 دقيقة» 

غادر الأبنودى الغرفة للبحث عن شريط كاسيت يحمل أغنية «يا ناعسة» كما طلب أمل قبل قليل، فيما عاد الطفل كريم ليجلس بجواره بعض الوقت، كما يفعل فى الصباح والمساء. بعد دقائق بكى الطفل أمامه من وخزات الحقنة كل يوم. بكاء الطفل أكثر من مرة كان سببًا فى انفجاره يومًا بالبكاء قائلًا: «ما الذى جناه طفل فى الرابعة ليسكنه هذا العذاب»، بعد دقائق غادر الطفل- كعادته- ودخل الشاعر عصام الغازى.

«مساء الخير يا أملنا»؟، ابتسم نصف ابتسامة ورد بهدوء: «أهلًا.. أهلًا». جلس الغازى بجواره. الصمت أكثر من الكلام. الحزن أوسع من السماء. الضحك غاب والفرح غاب وحضر البكاء. بعد دقائق قال أمل له: «لو سألتنى عن الموت، فأنا لا أخشاه، لكن أكثر ما يعذبنى فى موتى هو بكاء أمى وعذاب عبلة». ثم بعد فترة صمت قال: «لماذا أُصاب بالسرطان فى عام زواجى؟»، «اكتشف إصابته به عام ١٩٧٩ بعد ٩ أشهر من زواجه وأجرى جراحة فى مستشفى العجوزة لإزالة الورم الصغير الذى ظهر وجراحة ثانية بعدها ثم تسرب المرض اللعين إلى جسده الضعيف». 

الغازى ما زال صامتًا. وأمل والحزن يغلف صوته عاد يسأله: «لماذا يهاجمنى الموت فى زمان الفرح والهدوء»؟، قال ذلك ثم صمت قليلًا، فيما هرب الغازى مسرعًا من جواره وهو يبكى حيث لم يحتمل البقاء فى هذا الجو الخانق، العاصف، المؤلم، المريع. بعدها دخل الطفل كريم إليه الآن يرى الغازى يخرج مندفعًا، باكيًا سأله بدهشة: «لماذا يبكى صديقك هكذا يا عمو أمل»؟ 

نظر له ولم يرد! فيما ظل صوت محمد قنديل فى الغرفة يغنى: «خلصت منى القواله/ والسهم اللى رمانى/ جتلنى لا محالة»!، «كان أمل يعتقد أن الأبنودى بهذه الكلمات ينعيه! رغم أنها كانت مكتوبة لحبيبة كان اسمها ناعسة»!

«الغرفة- بعد 60 دقيقة»

الآن جاء الأبنودى بشريط الكاسيت. «ضعه فى الجهاز يا عبدالرحمن وشغله»! هكذا قال له أمل! بعد دقائق حضر جابر عصفور. استند أمل إلى ذراع عبلة وهو يرحب به: «أهلًا يا دكتور.. أريدك أن تصحبنى عندما أموت وأدفن فى قريتى (قرية القلعة/ محافظة قنا/ فى صعيد مصر وتصحب معك الأبنودى وعبلة طبعًا (ما هذه الصلابة التى يتحدث بها رجل- ليس كأى رجل- وشاعر- ليس كأى شاعر- عن تفاصيل جنازته بهذا الهدوء والثبات واليقين)»؟.. ثم يكمل قائلًا: «أرجو منك أن يكون الموقف عقلانيًا وهادئًا»! لم يتحمل جابر عصفور الحديث، وعاد للخلف قليلًا، فيما خفتت أضواء الغرفة، وهدأت الحركة خارجها! 

فى منتصف الليل جاء لزيارته ناصر الخطيب، مدير مكتب صحيفة الرياض بالقاهرة. كان أمل قد دخل فى غيبوبة الموت. «أيقظه الخطيب هامسًا فى أذنه: أمل.. قاوم!

فتح عينيه.. وبصعوبة فى النطق أجاب: «لا أملك سوى المقاومة»! ثم دخل فى غيبوبة الموت.. الآن مات أمل دنقل!

من قال «لا».. فلم يمت!

وظل روحًا عبقرية الألم!

  «الغرفة- قبل الظهيرة» 

عاد الطفل كريم للغرفة للجلوس معه مثل كل صباح. لم يجده! الغرفة ليس بها سوى تصاوير معلقة على الجدران، وسرير دون أغطية، وترابيزة بلا أدوية. ووجبة العشاء الأخيرة كما هى.. لم تمس! وهواء يدخل ويخرج من وراء ستائر الأحزان. جلس كريم دقائق بمفرده وحيدًا ينتظر صديقه أمل الذى ربما سيعود بعد قليل. دخلت إليه ممرضة ممتلئة الجسد، سألها: «أين عمو أمل»؟ بكت وهى تشيح بوجهها المحتقن عنه ثم خرجت مسرعة. نظر الطفل إلى جهاز الكاسيت الذى ما زال بجوار السرير. ضغط عليه مرة واثنتين وثلاث حتى جاء صوت محمد قنديل: «خلصت منى القوالة/ والسهم اللى رمانى/ جتلنى لا محالة»! حمل كريم الكاسيت، خرج من الغرفة. الآن يمشى ببطء فى ممر طويل متجهًا إلى حجرته القريبة. كريم يهز رأسه مع موسيقى الأغنية دون أن يفهم المعنى الذى فهمه صديقه أمل قبل أن يرحل ويودع الحياة فى هذا الصباح البائس، الكئيب، فيما عادت الممرضة مرة أخرى، وأغلقت باب الغرفة، الذى تركه كريم مفتوحًا، بعدما كتبت - بقلم رصاص كان فى معطفها- اسم أمل دنقل بجوار رقم الغرفة «٨»، ثم بخط أكبر منه خطت: الوصايا العشر «لا تصالح»!