جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

ريان جديد اسمه «المستريح»

لم تكن ظاهرة المستريح هى الأولى ولن تكون الأخيرة فى ظل فساد مجتمعى منتشر، فظاهرة المستريح ما هى إلا امتداد لممارسة اقتصادية ومالية واجتماعية اشتهرت باسم شركات توظيف الأموال، وتزامنت مع الانفتاح الاقتصادى فى أواخر سبعينيات القرن الماضى، مصحوبة بفتاوى دينية تحرم التعامل مع البنوك من منطلق أنها اقتصاد ربوى، وقد انتشرت هذه الفتاوى كالنار فى الهشيم، واقتنع بها الكثيرون، خاصة فى الأرياف والمناطق الأكثر فقرًا.

من فترة لأخرى تعود ظاهرة المستريح بأسماء وأماكن مختلفة؛ السعد والريان، وأخيرًا مستريح أسوان الشهير بمصطفى البنك.. العامل المشترك فى هذه الظاهرة هو الاستثمار فى النقود باعتبارها سلعة بعيدًا عن مؤسسات الدولة الرسمية، وهنا نلاحظ تداخل ظاهرة الرغبة فى الربح والثراء السريع دون عمل جاد مُنتج واللجوء إلى خطاب دينى يبررها.

يبدأ الأمر بشخص ذكى قادر على اكتساب ثقة المواطنين فى القرية أو الحى أو المنطقة السكنية، وقد يصل الأمر إلى الوطن كله كما حدث مع الريان مثلًا، هذا الشخص يغرى المودعين بصرف أرباح مبالغ فيها على نحو منتظم ولكن لمدة قصيرة، ثم سرعان ما تنكشف اللعبة ويقوم الشخص بالتخلف عن السداد، العلاقة هنا بين الطرفين تقوم على الخداع، طرف يرغب فى الكسب السريع وطرف آخر يستغل هذه الرغبة. 

هذه الظاهرة لا تدخل فى عمليات إحداث التنمية الاقتصادية ومن ثم المجتمعية، فالأموال المكتنزة لدى الطبقات المختلفة بدلًا من أن تدخل الجهاز المصرفى للدولة تذهب إلى فرد محتال، ولكن ذلك من ناحية أخرى يؤشر إلى أن الشمول المالى الذى بدأته مصر يحتاج إلى مزيد من التوسع فى البنوك فى المناطق الريفية والحضرية، ويحتاج إلى توعية دينية تتصدى للفكر الذى يشكك فى مصداقية المؤسسات الحديثة، وهو ما يكسبها قدرة الوصول إلى حساب المعاملات بشكل أوسع، لأن حساب المعاملات يسمح للناس بادّخار المال، وإرسال المدفوعات وتسلمها، بالإضافة إلى تأسيس خطاب واضح عن أهمية البنوك واعتبارها الأداة الأكثر أمانًا ونجاعة، وعدم السماح بوجود أشكال أخرى غالبًا كانت سائدة قبل العصر الحديث.

كما أنه على المؤسسات المالية الحديثة، وفى مقدمتها البنوك، عدم المبالغة فى زيادة ما تستفيده من المودعين تحت اسم «مصاريف إدارية»، وبلغة أخرى يجب التشديد على عمل مبادرات توعوية عن أهمية إيداع الأموال فى البنوك حتى تعم الفائدة على الاقتصاد والفرد والمجتمع، وهو ما يكسب المواطنين ثقافة التعامل مع قدراتهم المالية، ويتسنى لهم فهم مختلف الخدمات والمنتجات المالية، وفى نفس الوقت العمل من قِبَل المؤسسات على ابتكار منتجات مالية مصممة حسب احتياجات هذا النوع من المستهلك، لأنه على الرغم من الجهود التى بذلت من أجل تعزيز التكنولوجيا المالية والشمول المالى، والذى بلغت نسبته أكثر من ٥٦٪ فى نهاية عام ٢٠٢١، فضلًا عن وجود شهادات ذات عائد ١٨٪- لجأ الأفراد إلى هذا النوع من الاستثمار، فتجذُّر الأفكار عن الرأسمالية الإسلامية هو المسيطر على تعاملاتهم من الأموال.

هذا الاكتناز لا يقع فريسة للنصب فقط، بل يأخذ شكلًا آخر، وهو الاقتصاد الموازى، والذى نحتاج إلى مزيد من الحزم فى عمليات دمجه، حيث يؤدى إلى عدم معرفة حجم الاقتصاد الحقيقى بدقة، وهو ما ينعكس على معدلات النمو بالسلب، وعدم دقة حساب المؤشرات على مستوى الاقتصاد الكلى، والتى تقدر بقيمة أقل من قيمتها الحقيقية، وهذا ما يُصعّب الأمر على متخذى القرار، كما يؤثر بالسلب فى الموازنة العامة التى لا تستفيد منه نتيجة عدم تحصيل الضرائب. 

الأمر يحتاج إلى تضافر بين المؤسسات الثقافية والاقتصادية والتعليمية، والعمل بشكل متوازٍ ومتقاطع على تغيير ثقافة التعامل مع الأموال، وفى نفس الوقت تحويل هذه الأموال إلى الاستثمار والإنتاج، ومن الممكن فى هذا الصدد إنشاء وحدة فى الأرياف والمحافظات المختلفة ترشد الأفراد وتساعدهم وتقدم لهم المحفزات لإقامة مشاريع مناسبة لهم، وتعمل كحلقة وصل بينهم وبين مبادرات البنك المركزى التى تدعم المشروعات المتوسطة والصغيرة، وفى شأن آخر خاص بالأفراد المستثمرين فى البورصة أتمنى إلغاء ضريبة الأرباح الرأسمالية المفروضة على المصريين فقط، والتى تؤثر بالسلب على معدلات الجذب، ويمكن عودة ضريبة الدمغة بدلًا منها.