جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الاسم واللقب والكنية

بداية، تسلحتُ بجرأة ترفعنى لمقام الصادقين حتى أتمكن من كتابة هذا المقال، فالجرأة هنا ليست ضربًا من التبجح أو كسر الحياء، ولكنها جرأة مطلوبة تضمن لى الإدلاء بشهادة حق أمام ربى وأنقلها لمجتمع باتت قياساته تتأرجح بين القبلية والعرقية والدوجماتية والمدنية.

دعونا فى البداية نعرف الاصطلاحات المتداولة فى العلوم الإنسانية حول «مصر»، فهى تارة الوطن، وأحيانًا هى الدولة، وفى سياق ثالث هى المجتمع، وفى سياق رابع هى الشعب، وتظل المسميات تتهافت عليها كمولود جديد، بل نال اسم مصر حصة من اسم الدلع وهو «المحروسة»، وفى سياق آخر هى أرض الكنانة. 

لنبدأ من قمة الهرم ونقف إجلالًا لمفهوم «الوطن»، وهو المكون العاطفى والإنسانى، أو كما يعرّفه علم الاجتماع بأنه «الكيان» وليس المكان الذى ولدت فيه وأنتمى إليه وأعيش تحت مظلته مميزًا عن بقية البشر، وأحمل هويته، ويصبح فى النهاية حدودى مع الحياة إن تطلب الأمر الذود عنه والافتداء بالنفيس ولو كانت الروح، وقد يكون الوطن دولة أو مجموعة دويلات مترابطة أو متفرقة؛ لأن الوطن لا يعنى بالمحدد الجغرافى، ولذلك استخدم الشعراء والكتّاب لفظ الوطن لوصف تبعية العاشق لمعشوقه، وهو وصف مقبول ويؤيده العقل والقلب.

أما الدولة، فهى الوصف الاصطلاحى للبناء السياسى للوطن الذى يحدد الرأس الأعلى فى الهرم؛ الحاكم ومعه بقية القيادات والحكومة والوزراء والدستور والقوانين والبناء المؤسسى وكل القواعد الحاكمة التى تدير علاقة البشر البينية وعلاقتهم بالمكان، ويظل وصف الدولة عبارة عن هوية تحدد التعامل مع العالم الخارجى.

يأتى بعد ذلك وصف «المجتمع»، وهو ما يطلق على وصف المكون البشرى فى علاقة مع المكان والزمان والأرض، فالمجتمع وفق التعريف الأكاديمى هو مجموعة من البشر يربطهم نفس الزمان، ويعيشون على جغرافيا نفس المكان، ويخضع جميعهم لنفس التكليف المنظم، ويصبح جمعيهم منعمون بالمزايا التى يقررها المكون البشرى الحاكم، وبالطبع لكل منهم حصة من تاريخ المجتمع وسمعته.

أما وصف «الشعب» فهو الوصف الأكثر تفصيلًا للمكون الثقافى للمجتمع، بمعنى أوضح هو قراءة للهوية الثقافية للبشر، كما أن وصف الشعب هو وصف يُقصد به الشيوع فى كل القضايا؛ لأنه مسمى غير فئوى ولا يمكن تحديد بيانات أفراده، وفى النهاية دعونا نسكّن هذا المصطلح فى خانة التوجه العام غير المحدد.

تأتى بعد ذلك تصنيفات أقل حجمًا ولكنها أكثر دقة، مثل لفظ القبلية أو العرقية، وهو وصف يضغط كل التفاصيل التى تميز مجموعة من السكان فى بؤرة محددة قد تحمل لفظ عائلة أو قبيلة، وغالبًا ما تكون صورة مصغرة من وصف المجتمع ولكنها أكثر محلية، وليس خفيًا أن مصر بها عائلات عريقة تشعبت جغرافيًا وتفاقمت عددًا ونالت عزوة قد تمنحها قوة السيطرة على القبائل المحيطة، وقد تؤثر فى أحكام القضاء وتغيّر توجهات الرأى العام، كما سمعنا من إدارة الشأن المحلى فى جنوب مصر لدى التصدر لأحكام القصاص فى قضايا الثأر.

هنا يجب أن نتساءل عن قيمة هذه الاختلافات اللفظية فى وصف الهوية الوطنية وفهم معيار القوة فى لفظ القبيلة مع لفظ المجتمع مثلًا، خاصة بعدما تبين سطوة القبلية بموجب الأحكام القبلية على قوة القانون، بل التفوق على سيادة الدستور فى الأحكام العرفية والجور على سيادة القانون فى النزاعات المدنية، خاصة الطائفية.

لا أحبذ الاسترشاد بواقعة محددة، ولكنى سأستدعى كل الحوادث التى وقعت خلال الأشهر الثلاثة الفائتة، مثل واقعة تعدى الشخص السلفى على فتاة مسيحية يراها وفق معتقده وثقافته متهمة بالتبرج والسفور، أو التنمر الذى وقع على فتاة المترو، كما وصفها الرأى العام، لدى استقواء سيدة خمسينية على فتاة عشرينية فى المترو لأنها ليست محجبة، وغيرهما من حوادث تشير فى مجملها إلى أن هناك قوى حاكمة أبعد من القانون فى الحكم على سلوك البشر أو إصدار أحكام تجرّم المجاهر بالأكل فى نهار رمضان.

القراءة الضمنية كقاسم مشترك فى وقوع مثل هذه الحوادث هى وهن هيبة القانون وعدم قدرته على درء أو ردع الانفلات واستدعاء القانون كقوة رادعة تنظم الحياة المدنية بما فيها من خلافات أو نزاعات أو حتى تفاوض.

عودة إلى قراءة القوة النسبية «للعزوة»، سواء كانت القبلية أو العصبية، لنكتشف أنها أتت بخلل لا يستهان به فى حصة المواطنة من الاستقرار، فليس من المنطقى حتى الربع الأول من القرن الواحد والعشرين أنه لا تزال العصبية والقبلية تنحى جانبًا تدخُّل القانون فى درء تبادل القتلى فى قضايا الثأر، هنا تتحطم هيبة القانون وتزول الحكمة من صياغة القوانين، بل يضيع معه مفهوم الدولة وتصبح القوة القبلية هى الحاكمة، وعندها تصبح الأقلية التى لا تملك العزوة كأنها ضيف يتمتع بحماية الأغلبية، فهذا الصيدلى السلفى الذى تنمر على الفتاة المسيحية وصفعها لأنها فاجرة، كما يراها بعينيه ودوجمائيته، لم يستمد قوته الجائرة إلا من التأييد الصامت للمجتمع فى وقائع سبقت امتهان الأقليات فى الماضى، وهنا مكمن الخطر لأن تنازل الضحية عن حقوقه فى ظل صمت القانون يؤسس لهيبة الأعراف وتطاولها على القانون، وهذا أمر غير منظم قد يحرك الأقليات المفترسة ويقودها عنوة للتحرك فى اتجاه التمرد على مصداقية الدولة والمؤسسية الحاكمة.

القضية ليست واقعة بعينها، بل فى فهم معنى الأقلية، فالأغلبية ليست تفوقًا عدديًا فى وجه الأقليات، لأن وجود كرسى متحرك لمعاق واحد لا يعنى تجاهل إجراءات السلامة احتكامًا للأغلبية من الأصحاء.

لسنا بحاجة لمزيد من التشريعات، بل لتفعيل ما بين أيادينا منها.