أغنى أغنياء العرب
أعلن عدد من المواقع الإخبارية مؤخرًا قائمة صادرة عن مجلة "فوربس" ضمت أغنى عشرين ثريًا عربيًا خلال هذا العام، رصدت القائمة بالأرقام قيمة ثرواتهم ونوع النشاط الذي يمارسه كل منهم، والذي أسهم في تحقيق مداخيل هائلة انتهت بهم لتكوين تلك الثروات.
ونحن لسنا بصدد طرح أسئلة من نوعية: من أين لك هذا؟ أو غيره من تلك الأسئلة التي قد يراها البعض موضوعية، فيما أراها نوعًا من التطفل والتدخل فيما لا يعنينا، ما لم تكن موجهة من جهة تحقيق رسمية بناءً على بلاغات أو بيانات رسمية.
فكل هؤلاء المليارديرات هم في ظني رجال من الشرفاء- إلى أن يثبت العكس- وهم أيضًا فيما أرى نماذج من المجتهدين بل والعباقرة في إدارة ذواتهم وممتلكاتهم ومرءوسيهم.
سعدت جدًا إذ ضمت القائمة عددًا غير قليل من رجال المال والأعمال المصريين الذين تنوعت مصادر ثرواتهم بين قطاعات العقارات والإنشاءات والاتصالات، وبعضهم صنفت مصادر ثروتهم تحت بند "متنوع".
وظني أن مصادر الثروة هي البند الأهم الذي ينبغي أن يثير الاهتمام، وأكرر أنه ليس من باب الحسد، لا قدر الله، ولكنه من باب قياس قدرات السوق ومعرفة المجالات التي تحقق نسبة ربح كبيرة وسريعة وغير محفوفة بالمخاطر، ما يدعو غيرهم من صغار المستثمرين إلى التأسي بهم واقتفاء أثرهم وتحقيق بعض من نجاحاتهم.
واستثمارات الأفراد بالطبع غير استثمارات الدول، بمعنى أن الدولة تكون أكثر مراعاة للبعد الاجتماعي، وهي في استثماراتها تعنى بأمنها القومي في المرتبة الأولى غير عابئة بنسبة الربح الذي تحققه مشاريعها، وإنما تكون مستهدفة ما يعود على المواطنين من مداخيل منتظمة وفرص عمل طويلة الأمد وتلبية مطالب ملحة، سواء في خدمات الصحة أو التعليم أو المواصلات وغيرها، بما يحقق في النهاية ما اصطلح على تسميته السلم الاجتماعي.
ورغم تسليمنا بأن نجاح المستثمر أمر شخصي وجهد ذاتي يقوم به، غير أن المستثمر نفسه عليه أن يقر بأن المجتمع الذي ينشأ فيه ويمارس فيه نشاطه الاستثماري هو طرف أصيل في صناعة نجاحه ونماء ثرواته، على الأقل بصناعة مناخ استثماري يسمح له بالعمل أولًا، ثم بالنجاح ثانيًا، وبناءً عليه فإن البعد الاجتماعي في نشاط رجل الأعمال ينبغي أن يكون نصب عينيه، والأمر فضلًا عن كونه فريضة دينية يفرضها عليه الدين سواء بالزكاة بالنسبة للمسلم أو العشور بالنسبة للمسيحي، إلا أنه ملمح اجتماعي يمكن أن نصفه بأنه نوع من الذكاء الاجتماعي الذي يجنب المستثمر نظرات حسد الحاسدين ومكائد المنافسين.
وفي واقعنا المصري نماذج لرجال أعمال أدركوا أن الرزق الذي وهبهم الله إياه هو في حقيقته نوع من الأمانة التي اختصهم الله بالقيام عليها، فأداروا ثرواتهم بحكمة بالغة، إذ عرفوا لعباد الله حقهم في هذا الرزق واستمتعوا وذووهم بما منحهم الله إياه ثم تركوا لورثتهم أنصبتهم الشرعية التي تحفظ لهم- من بعدهم- مكانتهم الاجتماعية.
والأهم أنهم تركوا سيرة عطرة يذكرهم الناس بها، وتدل عليهم تلك المشاريع الإنسانية والمؤسسات الخيرية وهذه الأوقاف الإسلامية والمسيحية التي أوقفوا ريعها لصالح هدف سامٍ اختاروه لما وجدوا من سمو هدفه مع ضعف مداخيله وحاجة المستفيدين منه، ولا يمنعني من سرد نماذج من هؤلاء البشر- الملائكة- إلا خشية نسيان بعضهم.
لكن السؤال الملح الذي يفرض نفسه الآن هو: هل يقوم رجال الأعمال- سواء من كبار المليارديرات الذين شملهم تصنيف "فوربس" أو صغار المليونيرات الذين ندعو لهم بالنجاح ولثرواتهم بالنماء- هل يقومون بدورهم المجتمعي؟ هل يساعدون الدولة في حربها ضد الفقر والعوز؟ هل أسسوا مشروعات تمثل نسبة ما من مشاريعهم بحيث تتطلب عمالة كثيفة فيوفرون من خلالها فرص عمل لعدد كبير من الشباب المعطل؟ هل أسسوا جمعية خيرية أو مؤسسة أهلية تلبي احتياجات أساسية تقيل عثرات المعوزين من المصريين وما أكثرهم في ظل هذا الكساد العالمي والأزمة الاقتصادية التي يعانيها العالم كله؟ هل عاملوا العاملين معهم- ولا أقول عندهم- معاملة إنسانية لائقة تقيهم شر حقدهم وتحرضهم على مزيد من العمل والاجتهاد لينجح كلا الطرفين: العامل وصاحب العمل؟ وأين هي في مجتمعنا نماذج أولئك المستثمرين الذين يوجهون نصف أو ثلث أو حتى ربع رأسمالهم لصالح هدف إنساني؟ كمساعدة الطلاب غير القادرين مثلًا أو كمنح جوائز مالية معتبرة للمبدعين، سواء في الإبداع الأدبي أو الفكري أو الفني، ولا يكادون يحسنون توفير لقمة العيش لأنفسهم ولذويهم، أو كتوفير التمويل المالي لأصحاب الابتكارات والاختراعات التي تعينهم على تحويل رؤاهم من مجرد فكرة مجردة إلى واقع عملي يعود بالنفع على الإنسانية كلها، أو تدبير موارد تكفي للقيام بأبحاث طبية تعالج جائحة أو تداوي مرضًا عضالًا يضرب المجتمع بلا رحمة.
يقيني أن في مجتمعنا نماذج كثيرة من الخيّرين الذين أشير إليهم، غير أنهم يؤثرون صدقة السر في وقت أرى أننا في مسيس الحاجة إلى أن نجعلها علنية حتى يتأسى بهم غيرهم من المتكاسلين، ولكي يدرك المتباطئون أن الخير الذي جاء لمنافسيهم هو رزق ساقه الله إليهم بفضل ما قدمت أياديهم من خير بادروا به، فكانت مكافأة الله لهم مزيدا من الرزق والبركة والنماء.. ويا أغنياء الوطن قوا أنفسكم وأهليكم نيران الحقد المجتمعي، وأطفئوا لظاها بصدقات العلن التي لا تجرح المستحقين ولكنها ترقق قلوب المتابعين وتقيكم شرور الناقمين وترزقكم رضوان رب العالمين.
وفي ظني أن أغنى أغنياء العرب- في الواقع وليس بلغة الأرقام- هو من أدرك أن الحياة قصيرة قصيرة جدًا مهما طالت، وأن ماله ليس ملكًا له بل هو مجرد مستأمن وحامل لأمانة سيتركها حين يحين الأجل، والذكي منهم من يترك أمانته حيث لا تضيع الودائع إذ يجعلها في معية الله عارفًا بحق الله فيها من زكوات وصدقات وخيرات.
وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه في سورة المزمل: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم".