جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

فى وداع «صلاح منتصر»

«أول تحقيق عملته كان عن القصور الملكية، كتب هيكل عنوانه: الشعب يجلس على العرش، اصطحبت فلاحًا كان اسمه سليم وزوجته إلى قصر عابدين لأول مرة، وجلس الفلاح على كرسى الملك، وأجرى اتصالًا هاتفيًا ببلدهما، وجلست زوجته على كرسى الملكة، وتحتهما جلس طفلهما الصغير محمد و«قضى حاجته» فى الحمام الملكى.. وأعادت مجلة نصف الدنيا المتميزة نشر الصور، وعندما ذهبت لأخبار اليوم خصصنى مصطفى أمين ضمن مجموعة نقدم جريمة كل أسبوع.. قلت لنفسى الناس تسجل الجريمة بعد وقوعها، لماذا لا نسجلها قبل وقوعها؟.. وطلعت أخبار اليوم بمانشيت «هذا الرجل ذاهب ليقتل زوجته الساعة 11 صباح اليوم».. كان اسمه عصام وجواهرجى.. وتم القبض عليه طبعًا.
أتذكر أول مرة دخلت «آخر ساعة» كان هيكل رئيس التحرير مسافر كوريا وكنت أدير المجلة فى غيابه ونزل مصطفى أمين يطمئن وقلد صلاح منتصر أستاذه مصطفى أمين بصوته وهو يرمى المعلومة ويمشى قائلًا: «هه.. هه.. الخدامة بتاعة زينب الوكيل بتطالب بحبسها».. ثم تركنى ومشى، جلست وفكرت: يعنى الخدامة أكيد ها تقدم شكوى فى قسم الشرطة، وزينب الوكيل تسكن فى قصر النيل، وذهبت إلى قسم شرطة فى قصر النيل وسألت عن محضر فى القسم وجدته ونشرته بالنص.. هذه مجرد نماذج للإبداع... »..
تلك كانت بعض سطوره وما أشار إليه من ذكريات مهنية بديعة شيخ الكتاب الصحفيين الرائد «صلاح منتصر» الذى رحل عن عالمنا بالأمس القريب، والذى نال جائزة «العمود الصحفى» من قبل الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم فى منتدى الإعلام العربى فى دبى عام 2018، والذى اشتهر بالبحث وراء القصص الإنسانية، فأول خبر نشر له فى الأهرام، كان «مانشيت» فى الصفحة الأولى لقصة إنسانية عن شخص فاز رهانه على حصان فى سباق للخيل رغم فرصه الضعيفة، وعندما جاء وقت تسلمه المبلغ المالى الكبير، توفى. 
استمر « منتصر » فى العمل القيادى بالأهرام منذ دخوله عام ١٩٥٨ حتى انتقاله لعمل تجربته الصحفية المتميزة فى مجلة أكتوبر، خلفًا لمؤسسها الكاتب الصحفى أنيس منصور.
يذكر الإعلامى الأكاديمى الكبير د. محمد الباز أنه وقبل شهور قليلة من وفاة الحكيم فى العام 1987، أجرى معه الكاتب الكبير صلاح منتصر عدة حوارات معظمها لم يُنشر، وقد ضمنها بعد ذلك فى كتاب «توفيق الحكيم فى شهادته الأخيرة»، من بينها حوار بعنوان «رسالة من الحكيم إلى الحاكم» ومن بين ما جاء فيها:
الحاكم الناجح الذى أراد لمصر الخير والنجاح بدأ مهمته بسؤال: ماذا أريد لمصر؟ أما الذين لم يهدفوا إلى خيرها فقد كان سؤالهم هو: ماذا يريدون من مصر؟ وفرق كبير بين الذى يريد لمصر والذى يريد من مصر، سواء كان على مستوى الحاكم أو حتى المواطن.
أهم شىء أريد أن أقوله للحاكم هو أن أخطر ما يواجهه هو الخضوع لجملة الشعب عاوز إيه، القضية ليست الشعب عاوز إيه، ولكن الشعب يجب أن يكون إيه، مش الشعب عاوز إيه أقوم ألبى له كل طلباته السهلة والرخيصة، من الطبيعى أن الشعب بحالته التى هو عليها اليوم يتطلع إلى الحاجة السهلة، هذا أكبر خطر يواجه الشعب والحاكم، لا يمكن أن أبدأ: ماذا أريد لمصر ؟ دون أن أحدد مباشرة ماذا أريد من الشعب.
تلك كانت بعض ما ذكر د. الباز رئيس تحرير جريدتنا الغراء «الدستور» من سطور من كتاب الكاتب الكبير صلاح منتصر «توفيق الحكيم فى شهادته الأخيرة».. وبمناسبة ذكر ذلك الكتاب البديع، فقد ذكر كاتبنا الأهراماتى العتيد صلاح منتصر: «إنه ذات يوم فاجأنى توفيق الحكيم بطلب غريب.. أن أكتب له كل ما أريد من أسئلة، وأحضر فى اليوم التالى لأتسلم منه الرد مكتوبًا.. وتصورت أنه يبالغ، فهو على فراش المرض وكان ما زال تحت المتابعة والعلاج لأمراض القلب والأعصاب والضغط وهو يعانى متاعب وعكته الصحية الأخيرة، فقلت له ضاحكًا، إننى أريد أن أسأله عن أول ما سوف يفعله فى الآخرة.. قلت هذا، وتصورت أن الحكيم لن يأخذ كلامى على سبيل الجد، لكننى فوجئت بعد يومين يُسلمنى ست صفحات من ورق المستشفى، مكتوب عليها بخط واضح خال من الشطب ردًا على سؤالى فى الآخرة مع طه حسين، وقد كتب فيها تصورًا كاملًا للقائه فى الآخرة مع طه حسين صاحب شعار «التعليم كالماء والهواء» والحوار الذى جرى بخصوص نتائج هذا الشعار، وتداخل الآخرين الذين حضروا الحوار، ومنهم عباس العقاد ونجيب الهلالى، والغريب روعة ما جرى من حوار تخيلى أجراه الحكيم على ألسنتهم، وهو فى عمر الـ86 سنة مريضًا، ويكاد يدرى أنه مرض ما قبل الرحيل.. رحم الله الكاتب الكبير القدوة والمثال وصاحب الرحلة الأروع فى بلاط صاحبة الجلالة.