جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

يوسف إدريس: نجيب محفوظ أكثر بخلًا من توفيق الحكيم

جريدة الدستور

 

لو كانت الصحف تصل إلى الدار الآخرة، ولو قرأ توفيق الحكيم ما كُتب عنه عقب وفاته مباشرة، وكان فى المقدور أن يخرج ليعلق عما كُتب، لأشهر قلمه الرصاص «الباهت جدًا» وعلق رافضًا ومفندًا.

هكذا تحدث الأديب يوسف إدريس، الذى كان خارج مصر، عندما قرأ تعليقات الصحف والمجلات على جنازة «الحكيم» فأغضبته، واصفًا إياها بأنها كانت مقالات لـ«الرثاء والتقييم والتصعب».

وتذكّر ضحكات «الحكيم» التى كانت تجذبهم لغرفته فى «الأهرام» كالأطفال، وكان هو يطرح عليه القضايا التى تطرأ على ذهنه، فيجده قد تحول إلى كمبيوتر قد استوعب كل الأبعاد وأدلى برأيه.

ووصف «إدريس» توفيق الحكيم بأنه لم يكن يندهش أو يخشى فى الفكر أى شىء أبدًا، ولم يكن ينحرف أبدًا نحو العواطف، وإذا غاب عنه عامًا أو عامين والتقاه، يحس وكأنه كان معه بالأمس.

وجاء فى مقاله المنشور بجريدة «الأهرام»، يوم ١٤ سبتمبر ١٩٨٧: «نأى توفيق الحكيم بنفسه عن تجارب كثيرة، فلا سافر، ولا غامر، ولا تهور، حتى لتكاد تجاربه فى الحياة تنحصر فى أعوام تلمذته التى كتبها فى (عودة الروح) ثم (عصفور من الشرق) و(تحت المصباح الأخضر) وغيرها».

وفيما يتعلق بصفة «البخل» التى كانت تؤخذ على توفيق الحكيم، رأى يوسف إدريس أنها لم تكن مرضًا، أو بالأصح لم يعتبرها «الحكيم» عيبًا خلقيًا ليخفيه مثل نجيب محفوظ، متابعًا: «الصديق نجيب محفوظ بخيل هو الآخر، إن لم يكن أبخل من توفيق الحكيم!».

وأوضح أن «أديب نوبل» كان يرى البخل صفة معيبة فأخفاها، على عكس ما كان يفعل توفيق الحكيم، الذى كان يعتنق «البخل» عن إيمان قوى، باعتباره فلسفة، لذا استعمل قلم رصاص من نوع واحد منذ عام ١٩٦٩ لم يغيره، وعندما ضاق يوسف إدريس بالقلم سأله: «لماذا لم تغيره بقلم آخر ثقيل الخط؟»، فرد «الحكيم» بأن «القلم ثقيل الخط ينتهى بسرعة».

استمر توفيق الحكيم يكتب بقلم واحد، وكتب به إنتاجه من مسرحية «الصفقة» إلى مقالاته الأخيرة، وكان يردد: «ليت الناس تعلم أنى بخيل، فلا يطالبنى أحدهم بما يطالب به الناس العاديون»، فسأله «إدريس»: «ألا تعتبر هذا عيبًا؟»، فأجابه: «أبدًا..اسمع، هناك مثل شعبى مصرى يقول (طولة العمر تبلغ المنى).. ما هى طولة العمر؟، هى ألا تنفق صحتك بإسراف، وأن تقتر فى صحتك، ولكى تقتر صحتك لا بد أن تتعلم وتمارس التقتير فى كل شىء».

وأضاف: «إنهم يتهمون المرأة الجميلة دائمًا بأنها لا بد بالضرورة أن تكون بخيلة، وعندها حق، واحدة عندها مليار جنيه جمال، لا بد أن تحافظ عليه وتنميه، فالحمقاوات القبيحات وحدهن هن اللاتى ينفقن بقية الجمال بالإسراف، وأنا فلسفتى أن أعيش طويلًا، لأجعل الزمن يحل معى كثيرًا من القضايا التى أعجز عن حلها لوحدى».

وروى «إدريس» أن توفيق الحكيم كان يأتى إلى جريدة «الأهرام» سائرًا على قدميه، من منزله على كورنيش النيل فى «جاردن سيتى»، وكان يعود فى سيارة يوسف إدريس حسب رغبته، مع أنه كان له الحق فى أن تُخَصص له سيارة من «الأهرام» تنقله من منزله وتعيده، بحكم عضويته فى مجلس الإدارة.

تساءل «إدريس»: «هل كان الحكيم يقتر (للأهرام) هى الأخرى، فيستخسر أن يستعمل سيارتها، ويسعدنى بتوصيله؟»، مضيفًا: «كنت أحيانًا أذهب إلى مدرسة ابنىّ (سامح وبهاء) وأجلسهما فى المقعد الخلفى، ويجلس الحكيم بجوارى ونذهب لنوصله، وكان الابنان لا يعرفان من هو هذا الرجل اللطيف العجوز الطيب ويشاكسانه، فيرفع عصاه ويقول: (إلا البيريه)، فيصرخان فرحًا وحبًا».

وعلق على موت «الحكيم» قائلًا: «مات عصر، وخيّم عصر، مات توفيق الحكيم الشخص والعصر رحمهما الله!».