جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

إنه التدين الاجتماعى والشعبوى

لحب الله للإنسان - مطلق إنسان - كانت حكمة الله هى خلق الكون فى البداية ثم خلق الإنسان وذلك لكى يكون هذا الكون فى صالح الإنسان، كما أنه خلق الإنسان قبل أن يكون هناك أديان وذلك لحكمة الله فى التعددية الدينية، "لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين".
أى أن الإرادة الإلهية كانت تريد وتسمح بالتعددية الدينية فى إطار عبادة الإله الواحد، ذلك الإله الذى يراه كل معتقد فى صورة تخضع لظروف الزمان والمكان والثقافة.. إلخ، كما جاء فى الإنجيل "من ليس لهم ناموس هم ناموس لأنفسهم".
وهذا يعنى أن الله سيحاسب كل واحد حسب معتقده وحسب ناموسه أيا كان هذا المعتقد وذاك الناموس، كما أنه على هذه القاعدة لا يصح لأى إنسان أيا كان دينه أو وضعه أو غروره أو استعلائه أو مرضه الطائفى أن يتصور ويتخيل خيالًا مريضًا إنه هو الوصى الوحيد على الدين أو العقيدة أو هو مخول من الله لمحاسبة البشر حسبما يريد وكيفما يخيل له خياله المريض.
وذلك لأن الأمر محسوم عقائديًا ومنطقيًا فإن خالق الإنسان هو وحده الذى يملك أن يحاسب الإنسان، "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شىء شهيد".
إذن إذا كان صحيح الدين - مطلق دين - يؤكد تلك المفاهيم التى تعلى العلاقة الإنسانية لكى تكون سابقة للعلاقة الدينية، فلماذا نرى ما نراه من أن كل من يعلن تدينه لدين معين يوزع اتهاماته للآخر غير الدينى بأنه كافر ولن ينال الجنة أو لن يصل إلى ملكوت السماء وكأن الجنة والملكوت تحت أمر وفى يد ذلك المتشدد هنا وهناك؟ فنرى من لا يريد الرحمة لغير معتنقى دينه والباقى إلى الجحيم.
ليس كذلك فقط، بل لا رحمة ولا سماء ولا جنة لمن يؤمن بذات الدين ولكنه يختلف فى الطائفة "أرثوذكسى، إنجيلى، كاثوليكى، سنى، شيعى".. إلخ، فهل هذا هو الدين الصحيح الذى أراده الله للإنسان الذى أحبه وسخر له سائر الكون؟ وهل هذا يعنى أن الله اختص مجموعة قليلة من الخليقة تدين بدين بذاته فى أن يضمنوا الجنة ويحجزوا السماء لهم دون غيرهم من البشر؟ يعنى هل الله يحب هؤلاء أصحاب هذا الدين دون غيرهم من البشر أصحاب الديانات الأخرى فيضمن لهم الجنة والسماء ويذهب الجميع إلى الجحيم؟ هل خلق الله الإنسان وقد أعطاه الحرية فى أن يؤمن أو يكفر لكى يكون هناك بشر نواب عنه؟ 
وعلى ذلك رأينا عند استشهاد المناضلة الفلسطينية المقدسية بنت القدس الوفية شيرين أبوعاقلة أن الجميع ترحم عليها وأعطوها صك الاستشهاد، ولكن عندما عرفوا أنها مسيحية الديانة تم سحب الترحم وإسقاط صفة الاستشهاد.
يا سبحان الله على هذا التنطع! هنا قامة المعركة الطائفية الحقيرة دائمًا بين هذا المتنطع وذاك المتطرف، وتحول الأمر إلى معركة طائفية لا علاقة لها بصحيح أى دين أو أخلاق أو قيم إنسانية، وأصبح كل صاحب دين فيها ضامنًا للجنة والسماء دون غيره.
وفى الجانب الآخر فعدم الترحم على المسيحى أو أن المسلم لن ينال ملكوت السموات فهذا الترحم أو ذاك الحرمان ليس من حق أحد، ولا يملكه غير الله سبحانه الذى سيحاسب كل واحد حسب ناموسه وفق أعماله.
ولذا فهذا السلوك لا علاقة له بأى مقصد من المقاصد العليا للأديان التى يأتى على رأسها تلك العلاقة الإنسانية التى تربط مجمل إنسان، ولكن له علاقة بذلك التدين الذى تأثر وتكون فى إطار عادات وتقاليد وسلوكيات اجتماعية وفى ظروف تاريخية لها واقعها الذى أنتج تلك العلاقات إضافة لتحول الدين إلى تدين شكلى شعاراتى يرضى غرور ذلك المتدين، وكأنه بذلك قد أصبح الوكيل الحصرى للدين ولا مانع من أن يصبح ذلك التدين نوع من المتاجرة والاكتساب من الدين خاصة عندما يتم تسخير الدينى لصالح السياسى.
ومع هذه المممارسات وذلك السلوك المرفوض وجدنا هناك مشهد آخر كان درسًا بليغًا وسريعًا للمتنطعين والمتطرفين من هنا وهناك، عندما شاهدنا وشاهد العالم معنا ليس الترحم على شيرين.
ولكن كانت صلاة الغائب على شيرين وسط أنغام أجراس كنائس كل الطوائف المسيحية فى القدس مدينة الصلاة والسلام، فهذه هى الإنسانية وهذا هو التدين الصحيح خاصة عندما شاهدنا تلك الممارسات العنصرية وغير الإنسانية من الجنود الإسرائيليين، وهم يعتدون على الجنازة التى شارك فيها الآلاف والآلاف من أبناء فلسطين ورجال الدين من كل الأديان.
ذلك الاعتداء الذى تجاوز كل القيم والأخلاق حتى إنهم اعتدوا على النعش، الذى كاد أن يسقط على الأرض لولا أكف وظهور البشر (الإنسان) الذى حمى النعش من السقوط.
ستظل شيرين رمزًا للنضال والإخلاص للعمل والتمسك بالقدس والإيمان بقضية شعب ظلم ولن يتنازل عن حقه سواء كانت شيرين مسيحية أو غير مسيحية، فالإنسانية هى المؤشر الصحيح لأى تدين وبأى عقيدة.
حمى الله البشر من متاجرى الأديان