جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«تقدير موقف» حول أكبر موجة «تصعيد داخلى» فى إسرائيل

جريدة الدستور

 

لم تندلع مواجهة فى غزة، أو انتفاضة فى الضفة، أو حتى شغب فى المجتمع العربى داخل إسرائيل، لكن رغم ذلك هناك درجة عالية جدًا من التوتر لدى الحكومة الإسرائيلية خشية احتمالات الانفجار على عدة جبهات. ومنذ منتصف مارس الماضى، قُتل ١٩ إسرائيليًا فى هجمات فى بئر السبع والخضيرة وبنى براك وتل أبيب وأريئيل وإلعاد، وما يربط بين جميع الهجمات السابقة هو أنها غير مُخططة ولا تقف جهة معينة وراءها، وإن كانت أصابع الإسرائيليين تتهم حركة «حماس» بأنها من حرضت ضد الهجمات، وهذا ما يزيد الوضع تعقيدًا، ويصعب من التصدى للعمليات أو التفاهم بين الأطراف المختلفة لتجنب التصعيد، وهو ما نرصده فى السطور التالية.

 

الهجمات الفردية جعلت الوضع مختلفًا وإحباط العمليات صعبًا

جولة التصعيد التى تواجهها إسرائيل، خلال الأسابيع الأخيرة، كانت استثنائية، قياسًا على فترات التوتر السابقة، فالتصعيد الحالى يحدث فى عدة أماكن فى وقت واحد، ويتخذ عدة صور وأشكال، على رأسها العمليات المنفردة، والتوتر فى المسجد الأقصى، وانطلاق بعض القذائف الصاروخية من غزة ولبنان، بالإضافة إلى بعض الاشتباكات المسلحة فى الضفة الغربية، وفى مخيم جنين على وجه التحديد.

يأتى التوتر الحالى بعد خطوات إسرائيل الباحثة عن التهدئة، من بينها تقديم بعض التسهيلات المدنية فى الضفة الغربية وغزة، وتحييد موضوع حى الشيخ جرّاح فى القدس، وتحسين العلاقات مع بعض دول المنطقة، وإن كان التصعيد فى المسجد الأقصى فى فترة حساسة جدًا، مثل شهر رمضان كان كفيلًا بتعكير الأجواء.

الموجة الحالية بدأت بعمليتين فى بئر السبع والخضيرة فى نهاية مارس الماضى، تم تنفيذهما على يد اثنين من عرب إسرائيل لهما علاقة بتنظيم «داعش» الإرهابى، ثم استمرت عبر عمليتين إضافيتين فى بنى براك وتل أبيب، تم تنفيذهما على يد منفذين منفردين من منطقة جنين، بالإضافة إلى عملية فى أريئيل فى نهاية شهر رمضان الماضى، نُفذت على يد اثنين من قرى مجاورة، ومؤخرًا تم تنفيذ «عملية إلعاد»، على يد اثنين تربط أحدهما علاقة بحركة «حماس» الفلسطينية.

وتشير التقديرات فى إسرائيل إلى أن خيطًا رفيعًا يربط بين الجبهات المتوترة الخمس، وهى القدس، والضفة، وغزة، وعرب إسرائيل، ولبنان، ويدور الحديث حول عدة أذرع تهدد إسرائيل، لكن لها «رأسًا» واحدًا ينسّق فيما بينها، ويوزع القوة، ويحدد توقيت التحركات المختلفة، وهو «حماس».

وتعد هذه الموجة بمثابة أزمة مركبة بالنسبة لإسرائيل، لأنها جاءت على يد «منفّذين منفردين»، يتحركون دون انتماء إلى بنية أو منظمة، حتى دون خطة مسبقة أو تدريب أو دعم، ورغم ذلك نجح هؤلاء فى تحقيق الأهداف، وتسببوا فى مقتل ١٩ إسرائيليًا.

لذلك، أصبح التحدى الأكبر بالنسبة لإسرائيل يتمثل فى صعوبة إحباط العمليات الفردية قبل وقوعها، وفى معرفة المنفذين قبل خروجهم لتنفيذ العملية، وهو مماثل لما حدث فى بداية موجة انتفاضة السكاكين قبل نحو سبع سنوات. 

وبجانب العمليات الفردية، كانت الاحتكاكات مستمرة بين الفلسطينيين والسلطات الإسرائيلية، وكانت نقطة الاشتباك الأساسية هى الأماكن المقدسة فى القدس الشرقية ومحيطها، وكذلك جنين، والحرم الإبراهيمى فى الخليل، ومناطق أُخرى فى الضفة الغربية.

اتهام لـ«حماس» بالوقوف خلف العمليات بصورة غير تنظيمية

ترى جهات فى إسرائيل أن التصعيد المستمر، منذ أكثر من شهر، هو نتاج خطة أعدتها «حماس»، وبدأت تنفيذها قبل عدة أسابيع منذ بداية شهر رمضان الماضى، مع استغلال الأماكن المقدسة فى القدس الشرقية بهدف تشجيع احتجاج شعبى واسع يعبر عن تضامن فلسطينى شامل فى القدس والضفة الغربية وداخل إسرائيل. 

يأتى ذلك فى الوقت الذى تمتنع فيه الحكومة الإسرائيلية الحالية، بقيادة رئيس الوزراء نفتالى بينيت، عن كل خطوة من شأنها تفكيك الائتلاف الحكومى القائم، مع الحرص على عدم تغيير الوضع القائم فى شرق القدس وفى محيط الأماكن المقدسة، فضلًا عن محاولة الحكومة الحالية، وسابقتها، منع مواجهات عسكرية واسعة النطاق مع «حماس» لأنها تعلم مسبقًا أنها ستنتهى عند نفس النقطة.

فى المقابل، ترى إسرائيل أن «حماس» أيضًا لديها أسباب تمنعها من الدخول فى مواجهة عسكرية مع إسرائيل، من بينها أنها لا تزال فى مرحلة إعادة بناء قدراتها العسكرية التى تضررت بعد المواجهة فى شهر مايو من العام الماضى، فضلًا عن أن أى عملية جديدة من شأنها أن تعوق عملية إعمار غزة وتمس الدور المصرى فى القطاع، وهو ما لا يرغب فيه أحد، ويجعل الحركة حريصة على كبح أى محاولة لإطلاق صواريخ من القطاع. ورغم عدم رغبة الطرفين فى الذهاب للمواجهة، فإن إسرائيل ترى أن يحيى السنوار، قائد حركة «حماس» فى غزة، هو المسئول عن التصعيد، فى ظل خطابه الذى قال فيه: «أهلنا فى النقب.. المثلث.. الجليل.. حيفا.. يافا.. عكا.. واللد، أخرجوا البندقية أمسكوا سكينًا أو فأسًا إذا كانوا يريدونها حربًا دينية»، وهو الخطاب الذى اعتبرته إسرائيل تحريضًا وسببًا مباشرًا لـ«عملية إلعاد». ولذلك، تحدثت أطراف فى إسرائيل عن ضرورة اغتيال «السنوار»، وهو ما جعل المتحدث باسم الجناح العسكرى لـ«حماس» يقول: «إذا قضيتم على السنوار، فإن عملية (سيف القدس) ستكون بسيطةً مقارنة برد فعلنا. ومن يتخذ مثل هذا القرار سيكتب فصلًا كارثيًا فى تاريخ إسرائيل، ويرتكب عملًا غبيًا يدفع ثمنه باهظًا من الدمار والدم»، مع التهديد بأن العودة إلى سياسة الاغتيالات لقادتها تعنى تكرار الهجمات التى تشمل إطلاق صواريخ وتفجيرات داخل المدن الإسرائيلية.

تقديرات تؤكد: لا انتفاضة كبيرة فى الأفق لعدم استعداد الأطراف لدفع تكلفة الصراع

استراتيجية إسرائيل فى التعامل مع الأزمة مزدوجة، فمن ناحية تنفذ خطوات تهدف إلى تحسين حياة السكان فى قطاع غزة، وتدعم حلولًا اقتصادية ومشروعات للبنى التحتية فى القطاع، وفى الوقت نفسه تفكر فى خطوات عقابية من آن لآخر، مثل منع بعض العمال الفلسطينيين من دخول إسرائيل.

وتلقى هذه الاستراتيجية من يعارضها داخل إسرائيل نفسها، لأن هناك من يرى أن تقديم تسهيلات اقتصادية للقطاع يعد تقوية لحركة «حماس» فى مقابل إضعاف السلطة الفلسطينية فى رام الله، وأن وضعًا كهذا يجعل «حماس» أكثر جاهزية للانتخابات الفسلطينية المقبلة.

فى الوقت نفسه، تتبع إسرائيل سياسة تعرف باسم «جزّ عشب»، وتعنى الدخول إلى مواقع الاشتباك مثل مخيّم جنين، والقيام بحملة اعتقالات لجميع المتورطين فى العمليات ومعارفهم، مع سرعة ترميم الجدار الفاصل فى مناطق الخط الأخضر، وحلّ أزمة الدخول دون تصاريح، لمنع تسلل منفذى العمليات من الضفة إلى الداخل الإسرائيلى.

وحتى الوقت الحالى، فإن انتفاضة كبيرة لم تحدث، سواء فى الضفة الغربية أو القدس الشرقية، وترى إسرائيل أن ما يدفع جماهير الفلسطينيين للخروج فى الشوارع حالتين فقط، هما التنسيق بين حركتى «فتح» و«حماس» لخلق إجماع فلسطينى، أو الاحتكاك المباشر والدائم مع الشرطة، الذى يتضمن العديد من الإصابات، ما يدفع مزيدًا من الجماهير للخروج.

وتشير التقديرات فى إسرائيل إلى أن الأمرين لا يتوافران حتى هذه اللحظة، رغم أن العمليات التى تم تنفيذها ضد إسرائيل تحظى بتأييد واسع فى المجتمع الفلسطينى، لكنها حتى الآن لا تُترجم إلى خطوات شعبية أو تحركات، ما يعنى أنها تبقى عمليات فردية، كما أنها لم تنجح فى إشعال مواجهة شعبية واسعة فى الضفة الغربية أو عملية عسكرية مع قطاع غزة. 

كما ترى إسرائيل أن الحركات الفلسطينية تفضل الإبقاء على الوضع القائم حاليًا دون البحث عن مزيد من التصعيد، لعدم دفع أثمان اقتصادية عالية نتيجة المواجهة المحتملة.