جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

الله والمسيح والشيطان يسكنون جزيرة غمام

"وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ" (إنجيل متى)
"جزيرة غمام" ذلك العالم المكتفي بذاته عن ما عداه،البداية والنهاية والصراع الأزلي بين الإنسان  وتجربته، هناك حيث نسج عبد الرحيم كمال أسطورته الكاملة، بكل عمق وإخلاص وإنسانية، وكأننا أمام راوي عليم  يخلق الخيال واقعاً جميلاً ، فنرى ببصيرته ما لا تدركه أبصارنا،تنكشف لنا ذواتنا بكشف الحب،فنعشق حتى شرور أنفسنا ، ونبتلى بالتجربة التي لا نجاة منها إلا بخوضها،لنكتشف أننا المختارون، نحتوي الكون بأكمله بين جنبات نفوسنا، وأن معجزتنا الحقة ليست أن نسير على الماء، أو نعبر الموصد من أبواب وجدران،أو في معراج يرفعنا إلى عنان السماء.. فسر أسرارنا، أننا منه ، وهو منا، " فكله منه" كما قال "عرفات" ، سرنا الأوحد يكمن في التجربة، التي دخلناها مصطفين.
عبد الرحيم كمال، وظف تراثنا الديني والشعبي والأسطوري،وتراثه الشخصي الآتي من جنوب مصر، ليقدم لنا عملاً درامياً مكتمل الأركان، محمل برموز ظاهرة تلمسها بمجرد أن تشاهد أولى حلقات مسلسله "جزيرة غمام"، وأخرى باطنه، تحتاج إلى إعادة قراءة في كل ما طرح من أفكار.
موت الشيخ ولعنة السحر والدين:
الشيخ مدين هو مالك الحقيقة،جامع المتناقضات،ففي قلبه ينتهي الصراع القديم بين السحر والدين،فقد أوصى بسحره ، وبيته إلى "الشيخ يسري "، وعلمه الديني الظاهر ل "الشيخ محارب "، وسره إلى "عرفات" ،فهو الذي علم يسري السحر،و ملّكه مفاتيح الطلاسم والأحجبة،فالسحر جزء من تاريخ الشيخ مدين،حالة التصالح التي أنتجها "مدين" بكل ما يحمله من رمزية تتعدى حدود السطح إلى بنية أعمق ،بين السحر والدين، تكشف الجزء الخفي من الوعي الإنساني القديم، حينما كان يتعامل مع السحر بقداسة تليق بالأديان الإنسانية الأولى. ويتضح ذلك من خلال " الشيخ يسري" الذي يظل يبحث له عن مكانة بين سطوة "الشيخ محارب" وشعبية عرفات، وكأن العالم القديم يبحث عن وجود جديد.
وهنا يأتي دور الشيخ محارب،الذي منحه شيخه صلابة وقوة الدين بشكله الظاهري/ الطقسي ، أو كما قال "محارب " : " أنا شرع الله " ، فالجانب الطقسي الشعائري من الدين له حضور قوي في عالم "جزيرة غمام "، وإن تتبعنا الرمز إلى مستويات أعمق، قد نصل إلى أن "محارب " هو الدين بحد ذاته، ليس دين بعينه إسلام أو مسيحية أو يهودية، وإنما الدين كفكرة، تجربة الدين في نفوس البشر، وما قد يمنحه لهم من يقين لمجرد تمسكهم بشكله الطقسي فقط.فعبد الرحيم كمال، قرر اختبار نفوس أهل جزيرة غمام،حال تعرضهم لاختبار الخوف الحقيقي أمام سطوة ونفوذ محارب،الذي سيطر عليهم بالخوف من العذاب وجحيم الله، ومحاولاته الدائمة لتشويه عرفات أمام الجموع، مثلما حدث في مشهد المناظرة.. رغم إدراكه الباطني، أن التدين الظاهري بدون قلب المعرفة أو عرفات، سوف يكون مدخل للشيطان "خلدون"، الذي سيطر على منبر المسجد، و حوله إلى ساحة يفسد من خلالها نفوس البشر.
خلدون ولعنة سندس.."فحق عليهم القول " :
للدم لعنة تطال الكل،سندس التي أرادها الجميع، خطيئة سقط فيها أهل جزيرة غمام أجمعين، حتى أكثرهم براءة مثل درة ابنه الحاج العجمي، التي سقطت في خطيئة الغيرة والحسد، وصولاً لشباب الجزيرة الذين قتلوها رغبة وشهوة، مروراً بـ"البطلان" الذي حاول نسج شباكه حول مفاتنها، حتى الصمت المتواطئ الذي مارسه أهل الجزيرة يعتبر الخطيئة الكبرى.. سندس هي الاختبار الذي هوى فيه الجميع، فحق عليهم القول ، ووجبت اللعنة، وانفتح باب البحر أمام خلدون،طرح البحر.
قتل سندس، ورحيل الشيخ مدين، وتقسيم إرثه ، لحظة انكشاف الشر على العالم،خلدون لم يكن ليكتمل حضوره لولا ارتكاب الخطيئة و ورفع البركة، وبداية التجربة، خلدون بن المتزين، ذلك المسمى الذي انتقاه عبد الرحيم كمال بعناية، وكأنه يستخرجه من كل تراثنا مجتمعاً، فهو الشر الخالد ،ابن الطاووس / المتزين، والطاووس أحد ألقاب الشيطان كما ورد في كتب التفسير القديمة.
والحق أقول لكم، رغم كل ما يحمله خلدون من حقد دفين على كل بني البشر، ورغم صراعه القديم ضد أولاد جزيرة عرفات، ولكن لا نملك إلا احترام وجوده ودوره، فهو المُختبِر، الذي يضع الإنسان في أعمق لحظات المواجهة مع ذاته، وهواه وخوفه، مواجهة إن تمكنا من التصالح معها، سنصل إلى باب الرحمة، إلى الباب الذي عبر منه الشيخ مدين، وأوقف عرفات على عتبته ليلحق به في حين، ومن معه من المصطفين.
عرفات المسيح  واللوح المحفوظ:
عرفات ، المختار، " تحويشة الشيخ مدين " ، الراضي ، المحب، بطل رحلة التطهر، وارث السبحة وكتاب الأسرار، الذي اطلع فيه على كل خطايا أهل الجزيرة، وكأنه يملك اللوح المحفوظ، فقد علمه الشيخ الأسماء كلها، بكل ما في هذا العلم من مسؤولية..فهو مسيح جزيرة غمام، وليس بالضرورة أن يكون تجسيداً للمسيح بشكل مباشر، ولكنه حامل صفات الحب والرحمة والجمال، هو المعجزة التي أكتشفها الشيخ مدين ، ومنحه السر الكامل، الكامن في ذاته كإنسان ...
عرفات الذي تحمل كل خطايا أهل الجزيرة، وقرر أن يتسامح ويحب البشر حتى أثناء وقوعهم في الذنب، بل هو ذاته وقع في أكثر الخطايا خطراً، " الكبر" والغرور ،بعد وقوعه ضحية لخلدون، مما ألزمه بقيام برحلة تطهر ، تذكرنا برحلة أبطال الملاحم القديمة، و كأننا أمام الكوميديا اللإلهية ورحلة دانتي وفرجيل بين الحجيم والمطهر وصولاً للجنة أو المعرفة والنور.. تلك الرحلة التي تخلي فيها عرفات عن كل شيئ ، السبحة والنعل ، حتى بعد عودته إلى الجزيرة، محى كل ما يعلم في كتاب الأسرار الذي امتلكه خلدون وسيطر من خلاله على بني جزيرة غمام..عرفات عاد من رحلته بلا خطيئة وبلا خير، كما بدأنا الخلق نعيده،لحظة النقاء الأول.
عبد الرحيم كمال، أجاد رسم شخصية عرفات بدقة متناهية، جعلنا نتوحد مع تجربته، ولكنه حرص أن تكون تجربة إنسانية جميلة، بعيداً عن أي تعالي أو تميز حقيقي، يفقدنا التواصل مع عرفات ورحلته..وكأنه نحن في مرحلة ما من الرحلة.
العايقه / نواره..مريم المجدلية /الملاك الساقط:
العايقه ابنة النور، التي سقطت في عالم الظلمة، فهي تجسيد لفكرة الملاك الساقط كما وردت في التراث التوراتي القديم، فكل الشياطين كانوا ملائكة تمردوا وسقطوا في عالم الرزيلة ، ضد عالم النور والإله، وقد استفاد عبد الرحيم كمال من تلك الفكرة بحنكة واحترافية واعية.. فنواره ربيبة خلدون،التي أخدها من عالمها البسيط أثناء شوطة أفنت الجميع، ليعلمها فنون السحر والغواية، ويحولها إلى العايقه، ويستخدمها في غواية عرفات، وينقلب السحر على الساحر، ويعاملها عرفات كما عامل المسيح "مريم المجدلية " في بعض ما ورد عن تلك الحكاية من التراث المسيحي ..وتعود العايقه بعد رحلة طويلة من الغواية والسقوط إلى عالم النور من جديد، وتصبح من راكبي سفينة النجاة.
الحاج عجمي ..حامل الأمانة:
الحاج عجمي، كبير الجزيرة أبا عن جد، وارث الملك ،الذي تحمل الأمانة ، الحالم بعالم يحكمه العدل والعقل، عالم يسيطر فيه على النوازع والخطايا، يضمن للجميع الاستقرار، يواجه كل فاسد بقوة ،العالم بأهل جزيرته وطبائعهم، الذي يسقط أحياناً ضحية أطماعه، ولكن سرعات ما يعود إلى حيث بدأ، المتشكك في كرامات عرفات،كتشكك العقل في كل أمور الباطن.. ولكن بعد ما رأى كرامات عرفات وثق في قدرته وحبه،..عجمي هو العقل بكل نوازعه وتناقضته ومحاولته الدائمة السيطرة على كل العالم من حوله، الساعي إلى استمرار وجوده في وريث يرث العالم من بعده،حتى تستمر الحياة والعدل يحكمان أهل جزيرة غمام..
الحقيقة ، نحن أمام عمل درامي ملحمي ،استطاع عبد الرحيم كمال من خلاله أن ينسج عالماً موازياً، أسطورياً بامتياز، ولكنه واقعي إلى حد ملاسمة شغاف قلوبنا، فكرامة عبد الرحيم كمال أنه لا يحكي لنا الواقع بخيال جامح، ولكنه يقص علينا الخيال بواقعية شديدة.
ليبني لنا سفينة النجاة تأخدنا إلى ما بعد التجربة ،إلى عالم الرحمة والحب والجمال،كما فعل عرفات بعد عودته من رحلة التطهر،الذي اصطفى في جوف السفينة ، العقل (الحاج عجمي )، والدين في شكله الظاهر (محارب) ، والسحر (يسري) ، والعايقة (نواره)..تاريخ الإنسانية وتجربتها مجتمعاً، لخوض ملحمة أخرى بعد عودة خلدون في صراع جديد وعالم جديد، و عرفات.