جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

مقدمات لها تاريخ «2».. مقال نادر لأحمد بهاء الدين عن كتاب «تحرير المرأة»

أحمد بهاء الدين
أحمد بهاء الدين

- من الظلم أن يقال إن معركة قاسم أمين كانت الحجاب أو المرأة فقط

- مهمة قاسم أمين كانت ستصبح أكثر صعوبة لو لم يسبقه الشيخ محمد عبده إلى معركة تطهير الدين من الخرافات

يقولون إن مقدمة الكتاب المدخل الأول لقلب القارئ وعقله.. وأى كاتب، بالطبع، لا يولّى وجهه إلا شطر القارئ.. وقلبه وعقله.. غير أن «السرعة»، التى سرقت «حلاوة» كل شىء، سرقت معها حلاوة الكتب أيضًا، فصارت المقدمات لا تُقرأ.. هذا إن كانت الكتب تُقرأ بالأساس.

لكن «كبارنا» كانوا يهتمون على نحو خاص بالمقدمة، على الرغم من بساطتها وقلة كلماتها، وكانت تحمل معها معانى مهمة وأفكارًا طازجة.

هنا بعض من هذه المقدمات على مدار أيام عيد الفطر المبارك، أعاده الله علينا جميعًا بكل الخير.

كانت إعادتى قراءة هذا الكتاب، الذى صدر منذ سبعين سنة، مفاجأة مثيرة بالنسبة لى..

فقد سبق أن قرأت هذا الكتاب منذ سنوات بعيدة، كما قرأه غيرى فى أجيال متعاقبة، ثم مضى إلى إحدى الزوايا البعيدة للذاكرة، حتى لم يبق منه واضحًا إلا القضية العامة التى يتحدث عنها.

كذلك بعض المعارك حين يتم كسبها، ويصبح ما ثارت من أجله بديهة من بديهيات الحياة- تبدو على البعد سهلة بسيطة، وأحيانًا مسلية مثيرة للابتسام، ألا يثير الابتسام ابتسامًا. الآن- مثلًا- أن نسترجع معركة دارت منذ سبعين سنة حول أشياء مثل: حق المرأة فى التعليم، وحقها فى العمل، وحقها فى أن تسير فى الشارع مكشوفة الوجه؟

ولكن أكثر بديهيات الحياة لم تصبح بديهيات بهذه السهولة، وأصعب ما يمكن تغييره هو المعتقدات والعادات والتقاليد. إن اختراع الطائرة، مثلًا. وما يترتب على ذلك من نتائج الحياة لا يثير لدى الإنسان مشكلة كبيرة. إنه يتقبلها ويستعملها ويعتادها بسهولة. ولكن تغيير عادة اجتماعية، كوضع الحجاب على وجه المرأة، أو تغيير علاقة المرأة بالرجل، أمر لا يعتاده المجتمع بسهولة. فهنا يواجه الإنسان صراعًا مع نفسه، مع تكوينه الاجتماعى والنفسى والثقافى، وهو أقسى وأصعب من صراعه مع الطبيعة الذى يتمثل فى الاكتشافات العملية العلمية والاختراعات مهما كان أثرها فى تغيير حياته.

والحديث عن «تحرير المرأة» فى البيئة المصرية والعربية بوجه عام. منذ سبعين سنة، لم يكن فكاهة ولا تسلية. وإنما كان معاناة صعبة قاسية. يكفى أن نتذكر أننا اليوم، وبعد أن كسبت قضية تحرير المرأة نظريًا وفكريًا نستطيع أن نرى الحجاب- وهو ليس جوهر قضية المرأة، ولكنه أبسط مظاهرها- ما زال سائدًا فيما لا يقل عن نصف المدن والقرى العربية وإن كان الحديث عن تحرير المرأة قد أصبح عاديًا ومألوفًا..

على أنه هنا تكمن المفاجأة المثيرة التى ظفرت بها عندما رجعت إلى هذا الكتاب أقرأه من جديد: إن الحديث الذى يقدمه لنا ليس عاديًا ولا مألوفًا على الإطلاق. وهو بالتأكيد ليس كتابًا «قديمًا» فى مضمونه وصياغته ومنطقه: إن نوع تناوله الموضوع، وأفقه، وعمقه، وألوانه النابضة الحية تجعل المرء يشعر وكأن كاتبه قد نفض يده من كتابته بالأمس فقط..

وبهذا المعنى، فإنه من الظلم أن يقال إن معركة قاسم أمين كانت الحجاب، أو المرأة فقط. وإذا كان الحجاب هو الساحة المباشرة التى دار فيها معظم القتال، فإن ما تصدى له قاسم أمين كافٍ فى مداه، وفى مغزاه، أوسع كثيرًا من ذلك..

إن مكان قاسم أمين الحقيقى هو بين ذلك الرعيل من المناضلين المفكرين الذين حفل بهم ما يمكن أن نسميه «عصر التنوير» الأول فى أواخر القرن الماضى وأوائل هذا القرن. مكانه الحقيقى هو بين جمال الدين الأفغانى وعبدالرحمن الكواكبى ومحمد عبده وأديب إسحق وفرح أنطون وعبدالله النديم وعبدالسلام المويلحى وسعد زغلول، ثم طه حسين وعلى عبدالرازق وساطع الحصرى إذا شئنا أن نتوغل قليلًا فى القرن العشرين.

هذا الرعيل، شب ونشأ وخاض فترة من أخطر الفترات فى تشكيل الواقع المصرى فى الدرجة الأولى، والعربى بوجه عام.

لقد أقام «محمد على» أسس «الدولة» المصرية الحديثة وهز قوائم الإمبراطورية التركية التى كانت تغطى العالم العربى كله تحت عباءتها الواسعة، وحقق كل ما يلزمه لإنجاز هذا الهدف: سواء فى مجال الزراعة أو الصناعة أو الاقتصاد أو التسليح أو التعليم.

ولكنه لم يغير- أو لم يتصد لتغيير- شىء من حياة المجتمع وأفكاره ومعتقداته بوجه عام. ثم انكسرت محاولته وانحسرت أمام «تحالف عالمى» أراد إنقاذ الإمبراطورية التركية الشائخة وإجهاض هذه الدولة البازغة فى الأفق العربى.

وقد هبت بعد ذلك الثورة العرابية، محاولة شعبية هذه المرة، لتحرير المجتمع المصرى، ثم انكسرت أمام قوة دولية أخرى، أكبر قوة دولية فى ذلك الوقت بإنجلترا، أجهضت مرة أخرى المحاولة الجديدة لإقامة كيان مستقل يتحمل تبعات نفسه وينفتح على التطور..

تلك كانت روائح العصر..

الإمبراطورية العثمانية- الدينية- فى أفول، وقد خرجت من مصر، ولكن بقى ظلها ماثلًا فى أذهان الكثيرين، سواء تمسكًا بفكرة الدولة الدينية أو مقاومة للإنجليز..

وإمبراطوريات أوروبية صناعية صاعدة، تشق طريقها لترث الإمبراطوريات القديمة، ولتبدأ عصر الاستعمار بمعناه الجديد آنذاك.. وحركة قومية عربية تغلى، وحركة وطنية مصرية تشب، وهجرة فكرية عربية إلى مصر المتمتعة بقدر نسبى من التحرر.. ورياح عصر جديد أوروبى يهز النوافذ والأبواب القديمة بأفكار وثياب وعادات وأساليب جديدة، وتشبث عنيف بالماضى حتى لا تضيع الهوية والشخصية والكيان، مع تحرق حاد إلى الاتصال بالجديد واكتسابه والظفر بمقوماته..

عصفت هذه التيارات كلها بمصر، وتكاثرت الأمثلة الخطيرة المطروحة على العقل المصرى، والعربى بوجه عام..

ما الذى حدث عبر القرون؟

ما الذى جعلنا نتخلف وغيرنا ينطلق؟..

ما علاقتنا بالماضى؟ وماذا نسلك من طرق المستقبل؟

ما جوهر الدين؟.. وما الذى علق به فى عصور الانحطاط؟

ما الحلال والحرام؟

من الشعب؟.. وما السلطة؟ ومن الذى يحكمه؟

أنصلح السلطة لكى ينصلح الناس؟ أو نصلح الناس لكى تنصلح السلطة؟

ما هويتنا؟.. وطنية مصرية؟.. قومية عربية؟.. أمة إسلامية؟ وهل هذه الانتماءات متعارضة أو متكاملة؟

وفى الذاكرة تجارب قريبة متعارضة متصارعة.. المماليك، الأتراك، نابليون، محمد على، عرابى، الإنجليز.. فما الحل؟ وما العمل؟

فى هذه الفترة شديدة الخطر، عاش قاسم أمين، وعاش ذلك الرعيل الذى أشرت إليه.

وقد ذهب كل منهم، فى ظروف شتى، يضرب فى سبيل..

منهم من نظر إلى الخارج ومضى يحارب الاستعمار بالعمل السياسى المباشر؛ لأنه رأس الداء، ومنهم من نظر إلى الداخل ورأى أن التجديد الدينى هو نقطة البدء فى بعث الأمة، ومنهم من خاض معركة التعليم، ومنهم من عمد إلى أسلحة التعليم المستحدثة كالمسرح والصحافة، ومنهم. ومنهم..

واختار قاسم أمين قضية بالغة الخطورة هى قضية المرأة.

ولكن كل سطر كتبه فى هذه القضية نابض بالدليل على أن كل المعارك الأخرى والقضايا المطروحة كانت ملء قلبه وعقله.

ولد قاسم أمين فى الإسكندرية، فى ديسمبر سنة ١٨٦٣م، أو هذا على الأقل هو التاريخ الذى تشير إليه المصادر. إذ يظل الباحث يتساءل عن المسافة بين سنه الصغيرة والشهادات التى حصل عليها، والمناصب التى تولاها، برغم أنه كان من سلالات الأتراك الذوات الذين كانت تنفتح أمامهم الطرق إلى الترقى فى سهولة ويسر..

وكان أبوه محمد بك أمين من أسرة تركية. عندما كانت الأسرة التركية- خصوصًا تلك المتيسرة نوعًا- هى أرستقراطية العالم العربى كله. وهكذا كان محمد بك أمين كسائر الموظفين الأتراك الكبار ينتقلون بين المناصب فى مختلف أطراف العالم العربى الداخل فى دائرة الإمبراطورية. فهو- محمد بك أمين- لم يولد فى تركيا، ولكنه ولد فى «السليمانية» عاصمة المنطقة الكردية فى شمال العراق حاليًا. حيث كان ابن عمه يعمل واليًا على المنطقة. وقد عاد إلى إسطنبول حيث درس القانون ثم عاد إلى السليمانية ليكون بدوره واليًا.

وفى هذه الأثناء جاء محمد بك أمين فى رحلة إلى مصر وجاب الدلتا والقاهرة والصعيد. وفى الصعيد تعرف إلى أسرة مصرية.

أعجب بها وتزوج إحدى بناتها. وسافر بها إلى مقر عمله، وكانت له هناك زوجة تركية لم تنجب. فلما حملت زوجته المصرية بعد ذلك مرة فرح فرحًا شديدًا، وجاء بها إلى مصر لتضع مولودها بين أهلها.. ولكن آلام الوضع فاجأت الزوجة فى الإسكندرية، بعد وصولهما على السفينة بقليل، فوضعت فى الإسكندرية أول أبنائهما «قاسم» وعاد محمد بك أمين إلى السليمانية بزوجته المصرية وطفلهما قاسم، وهناك ولدت ابنه الثانى إبراهيم.

وعاشت الأسرة زمنًا فى الإسكندرية، أقرب مدينة كبيرة إلى الأملاك الجديدة، ودخل قاسم مدرسة رأس التين، ثم انتقلت الأسرة إلى حى الحلمية بالقاهرة وانتقل هو إلى المدرسة التجهيزية «الخديوية الثانوية حاليًا»، ثم دخل مدرسة الحقوق، وحصل على الليسانس سنة ١٨٨١م وكان أول الدفعة، وعمره طبقًا للتاريخ الذى سبق ثمانية عشر عامًا فقط.

وقد أرسله أبوه ليتمرن فى مكتب المحامى «مصطفى فهمى»، الذى أصبح بعد ذلك رئيس وزراء طوال ثمانية عشر عامًا متصلة تحت حكم الإنجليز، والذى صاهره بعد ذلك سعد زغلول حين تزوج ابنته صفية. ثم لم يلبث قاسم أمين أن سافر إلى فرنسا فى بعثة ليدرس القانون..

حضر قاسم أمين فى تلك الفترة مقدمات الثورة العرابية.

وذهب إلى قهوة «متاتيا» عند سور الأزبكية حيث عرف جمال الدين الأفغانى وتحلق مع شباب آخرين من حوله كسعد زغلول.. ورجال أكبر منه قليلًا منهم محمد عبده وعبدالله النديم وأديب إسحق..

لا شك أن قاسم أمين قد امتزج بالعاطفة الوطنية المتحررة التى كانت من مقدمات الثورة العرابية، وبخاصة أنه عرف أقطابها عن كثب، ولا شك أنه قد سافر إلى فرنسا مبعوثًا مفعمًا بآمال بلاده.

وفى باريس تابع تطور الأحداث المحزن: هجوم الإنجليز على مصر، وكسر الثورة العرابية، والمحاكمات، والفرار والاختفاء.

لقد أخفقت محاولة أخرى..

وجاء الأفغانى ومحمد عبده إلى باريس منفيين.. عندما أصدرا جريدة «العروة الوثقى» أسهم فيها معهما، وأخذ يساعد محمد عبده على تعلم اللغة الفرنسية، ثم لاحق الاضطهاد الدولى أنفاس الحركة الوطنية التى بدأت تتردد على صفحات «العروة الوثقى» فى باريس حتى أخمد هذه الأنفاس، وأغلقت «العروة الوثقى» بعد صدورها بأشهر قليلة..

نستطيع أن نتصور قاسم أمين معذبًا فى بلاد الغربة بهذه الشجون كلها.. هو الذى ترك بلاده تنبض بالآمال، وتموج بحركة وطنية وتحريرية مباشرة.. وها هو ذا يرى على البعد أنفاس هذه الحركة قد أخمدت ودولة كبرى قادرة قد جثمت على صدر هذه الأحلام التى اختنقت..

وها هو ذا يعقد المقارنات أو يبدأ فى تأمل الأشياء من زوايا جديدة «لو قورن بين مصر ومدن الدول الأخرى مثل لندن وباريس لظهرت فى حالة محزنة، كما لو وضعت سائلة ذات أطمار قذرة بالية فى جانب عروس متحلية بأفخر الملابس وأغلى الحلى وأبهاها. وفى الحقيقة أن مصر بلاد فقيرة جدًا نصف أهلها- وهم الفلاحون- يعيشون بالشىء التافه الذى يقى الحى من الموت جوعًا».

وهو بحكم ثقافته الشرقية، واختلاطه بمحمد عبده المحارب فى ساحة التجديد الدينى، يبدأ يدرس ما فى بلاده من عادات وتقاليد، وأيها من الدين الصحيح وأيها دخيل؟.. فهو يكتب فيما بعد فى كتابه «تحرير المرأة» خاطرًا ألح عليه كثيرًا: «لم يعتقد المسلم أن عوائده لا تتغير ولا تتبدل، وأنه يلزمه أن يحافظ عليها إلى الأبد؟.. مع أنه هو وعوائده جزء من الكون الواقع تحت حكم التغيير والتبديل فى كل آن، أيقدر المسلم على مخالفة سنة الله فى خلقه، إذ جعل التغيير شرط الحياة والتقدم، والوقوف والجمود مقترنين بالموت والتأخر؟».

وإذا كان لكل نفس طبيعتها وميولها، فلا شك أن قاسم أمين لم يكن صاحب تلك الطبيعة التى تجعله محاربًا كسعد زغلول، أعز أصدقائه مثلًا، ولكنه كان مرهف الحس للفنون والجماليات والقضايا الاجتماعية، فيعلن عن أنه «من أكبر أسباب انحطاط الأمة المصرية وتأخرها فى الفنون الجميلة».

التمثيل والتصوير والموسيقى، هذه الفنون ترمى جميعها إلى غاية واحدة هى تربية النفس على حب الجمال والكمال، وإهمالها هو نقص فى تهذيب الحواس والشعور.

وبهذا التكوين والميول، يتعرض لتجربة يتعرض لها كثيرون من الشبان الشرقيين الذين يسافرون إلى أوروبا، تجربة التعرف إلى المرأة الأوروبية. فبعض المراجع تحدثنا عن فتاة فرنسية اسمها «سلافا» أغلب الظن أنه كانت بينه وبينها قصة هوى مشبوب.

على أنه فيما يبدو لم يعرف «سلافا» خلال علاقة لاهية، كما يحدث لآخرين، إنما كانت بينهما علاقة ملكت عليه حواسه، تفهم هذا من سطور فى كتاباته عن الحب، سطور فيها إحاطة بكل ما يعرض للمرء فى حالات الجد العنيف.

فالحب، كما يصفه: «.. مرض يقاسى فيه العاشق عذابًا يظهر باحتقان فى مخه وخفقات فى قلبه واضطراب فى أعصابه واختلال فى نظام حياته، ويظهر على الأخص فى الأكل والنوم والشغل، ويجعله غير صالح بشىء سوى أن يقضى أوقاته شاخصًا إلى صورة محبوبته مستغرقًا فى عبادتها، ذاكرًا أوصافها وحركاتها وإشاراتها وكلماتها.. نظرة من عيون محبوبته تملأ قلبه فرحًا، وتجعله يتخيل أنه يمشى فى طريق مفروش بالورد، أو أنه راكب سحابة أو طائر فى المرتفعات العالية.. فى هذه اللحظة يكون أسعد من أكبر ملوك الأرض، فإذا انقضت، عاد إلى ما كان فيه من عذاب وآلام».

تدقيق لا يترك شكًا فى سبق معاناة صاحبه، وأسلوب يذكرنا بأسلوب الكاتب الأندلسى القديم «ابن حزم» فى كتاب «طوق الحمامة»...

وسواء أكانت هناك «سلافا» أم لم تكن فلا شك أن قاسم أمين قد استوقف نظره بوجه خاص وضع المرأة فى المجتمع المتقدم وأكثر من ذلك: علاقة المرأة بالرجل، والمعانى العميقة للحب وللزوجية. ففى هذا المجال نجده يكتب صفحات من أجمل صفحات كتابه هذا عن تحرير المرأة..

«اللذة الجسمانية المتحدة فى النوع مهما تخالفت فى الأفراد فهى دائمًا واحدة. فإن أفراد اللذة المتحدة فى النوع تتشابه إلى حد تكاد لا تتميز إلا باختلاف الزمان أو المكان مثلًا، فما يحصل منها أولًا هو ما يحصل ثانيًا وثالثًا ورابعًا وهكذا..

«ومن البديهى أن تكرار لذة بعينها مهما كانت، سواء كانت لذة نظر أو لذة سمع أو لذة ذوق أو لذة لمس يفضى فى الغالب إلى فقد الرغبة فيها، فيأتى زمن لا تتنبه الأعصاب لها لكثرة تعودها إياها. والأمر بخلاف ذلك بالنسبة للذة المعنوية. هذه اللذة فى طبيعتها يمكن تجددها فى كل آن.

تأمل فى مسامرة صديقين تجد أنها كنز سرور لا يفنى، متى تلاقيا يفرغ كل منهما روحه فى روح الآخر فيسرى عقلهما من موضوع لموضوع.. كل عمل أو فكر أو حادث أو اختراع يكسب عقلهما غذاء جديدًا، ويفيد أنفسهما لذة جديدة. كل مظهر من مظاهر حياة أحدهما العقلية والوجدانية وكل ما تحلت به نفسه من علم وأدب وذوق وعاطفة تنعكس منه على نفس الآخر لذة جديدة، ويزيد فى رابطة الألفة بينهما عقدة جديدة.

ومن هنا يعلم مقدار سلطان الحب الحقيقى على الإنسان، وكيف أن العارف يعتبر العثور على ذلك الحب الشرف من أكبر السعادات فى هذه الدنيا. فإن كان المال زينة الحياة فالحب هو الحياة بعينها..

فهذا الحب لا يمكن أن يوجد بين رجل وامرأة إذا لم يوجد بينهما تناسب فى التربية والتعليم. ويجب ألا يفهم أن الرجل المتعلم إذا لم يحب زوجته فهى يمكنها أن تحبه. فإن توهم ذلك يعد من الخطأ الجسيم، لأن الحب الحقيقى الذى عرفت عنصريه المادى والمعنوى لا يبقى إلا بالاحترام، والاحترام يتوقف على المعرفة بمقدار من تحترمه. والمرأة الجاهلة لا تعرف مقدار زوجها.

سل جمهور المتزوجين: هل هم محبوبون من نسائهم؟ يجيبوك: نعم. لكن الحقيقة غير ما يظنون. إنى بحثت كثيرًا فى عائلات مما يقال إنها فى اتفاق تام، فما وجدت إلى الآن زوجًا يحب امرأته ولا امرأة تحب زوجها. أما هذا الاتفاق الظاهرى الذى يشاهد فى كثير من العائلات فمعناه أنه لا يوجد شقاق بين الزوجين.. إما لأن الزوج تعب وترك، وإما لأن المرأة تركت زوجها يتصرف فيها كما يتصرف المالك فى ملكه، وإما لأنهما كليهما جاهل لا يدرك قيمة الحياة. وهذا الحال الأخير هو حال أغلب الأزواج المصريين.

وإذا كنت قد أسهبت فى نقل هذه الصفحات بالذات من كتاب «تحرير المرأة» فالسبب هو أننى أعلق عليها أهمية خاصة فى النظر إلى قاسم أمين وإلى كتابه.

ذلك أننى أعتقد أن القيمة الكبرى للكتاب ليست فيما «طالب به» فى النهاية. فما الذى طالب به، بعد كل شىء؟

تعليم المرأة حتى التعليم الابتدائى، أن تسير المرأة فى الشارع سافرة الوجه والكفين فقط؟ تعديل قوانين الزواج والطلاق «تعديلات لم تدخل بعد»؟ وبرغم خطورة هذه «المطالب» فى ذلك الوقت، أعتقد أنه لو كان الأمر هو مجرد المطالبة بها، لما ثارت عليه هذه الضجة، ولما تعرض المؤلف لما تعرض له من حملات ومن صنوف التشهير..

إن القيمة الكبرى للكتاب فيما يقدمه- تحليل جرىء ونظرة نفاذة فى صميم وضع المرأة، وعلاقات المرأة بالرجل، ومعنى الزواج، والأمومة، والأبوة.

هذه العلاقات التى ركدت واستقرت مئات السنين على شكل معين، لم يأت قاسم أمين ويتحدث عنها «من الخارج» مطالبًا فقط بأن تتعلم المرأة القراءة والكتابة وتكشف عن وجهها وكفيها.. ولكنه غاص فى أعماقها غوصًا شديدًا.

وهذه قناعات ومسلمات لدى الرجل والنساء على السواء حول قضايا بالغة الحساسية..

إنه يكتب كلامًا «يجرح» به شعور كل رجل وامرأة!

يقول لكل رجل وامرأة: ليس ما بينكما هو الحب.

ما تعيشون فيه ليس هو الزواج بمعناه الحقيقى.. ليس صحيحًا أنك تحب امرأتك، أو أنك تحبين زوجك!

هذه الصفحات التى اخترتها. ولها نظائر كثيرة- نجد قاسم أمين فيها يتحدث بصراحة، وجرأة ولباقة معًا عن حياة المرأة والرجل..

عقليًا ونفسيًا وجنسيًا وشعوريًا واقتصاديًا، لا يعفى من تحليله الجارح حتى ملابس المرأة الداخلية!

ربما كان ما حظى بالجدل حين شنت عليه الحملات هو تعليم المرأة وسفورها وطلاقها وزواجها؛ لأن هذه فى حد ذاتها لم تكن بالأمور البسيطة.. يكفى أن نذكر أن المرأة لم تكشف وجهها إلا بعد ثورة ١٩١٩م، فى سنة ١٩٢٢م وكان يحدث أحيانًا أن يقذف الناس فى الشارع المرأة السافرة الوجه، أى بعد ربع قرن من صدور الكتاب، وأن أول مدرسة ثانوية للبنات وعلى نظام مدارس البنين، أى للمواد الدراسية العادية، لا النسائية فقط، لم تنشأ إلا سنة ١٩٢٥م، وأن تقييد حق الرجل فى الطلاق وفى ألا يقع الطلاق إلا أمام القاضى، لم يقر بعد برغم مرور سبعين سنة.

بل إنه يعنى أيضًا أن المرأة «لن تنال ما تستحق من الاعتبار والكرامة إلا إذا منحت حق الطلاق».

ربما كان هذا كله مهمًا وخطيرًا ولكن «الجرح» الذى هز المجتمع هو هذه الصورة الجارحة المتعمقة التى قامت بتعرية أخفى العلاقات وأهمها فى المجتمع.

وحين نقرأ مثل هذه التحليلات فى الكتاب، نتساءل عمّا إذا كان قاسم أمين قد قرأ «بيت الدمية» لهنريك إبسن و«مهنة مسز دارين» لبرناردشو. ولكنه على أى حال لم يتأخر كثيرًا عن معالجة هذه القضايا من هذه الزوايا بالذات.

فالمسرحية الأولى صدرت سنة ١٨٧٩م والثانية سنة ١٨٩٣م. وقد قضت أجيال قبل أن يكتب كاتب كبير مثل سلامة موسى فى هذه المعانى، ويعد جديدًا وجريئًا.

ولا ينقص قاسم أمين الحس الاجتماعى، فهو يسجل فى بعض تحليلات الكتاب هذه الملاحظة الذكية.. يمكن أن يقال إنه كلما ارتفعت المرأة مرتبة فى اليسر زاد جهلها. وإن آخر طبقة من نساء الأمة، وهى التى تسكن الأرياف، هى أكملهن عقلًا، بنسبة حالها. فالمرأة الفلاحة تعرف كل ما يعرفه الرجل الفلاح. مداركهما فى مستوى واحد لا يزيد أحدهما على الآخر تقريبًا. مع أننا نرى أن المرأة فى الطبقة العالية أو الوسطى متأخرة عن الرجل بمسافات شاسعة، ذلك لأن الرجال فى هذه الطبقات تربت عقولهم واستنارت بالعلوم، ولم تتبعهم نساؤهم فى هذه الحركة، بل وقفت فى الطريق. وهذا الاختلاف هو أكبر سبب فى شقاء الرجل والمرأة معًا.

أمر آخر يجعل هذه التحليلات والتأملات التى يسوقها قاسم أمين أهم فى فهمه من «المطالب» التى نادى بها، هو أن القارئ المتأمل سوف يلاحظ أن ما طالب به فعلًا لم يكن كل ما يتمنى أن يطالب به. إنه طالب بما يتصور أنه أقصى ما يستطيع أن يتحمله المجتمع، ولكن الصور التى يعرفها والملاحظة التى يسوقها لا تترك مجالًا للشك فى أنه كان يطلب للمرأة التعليم بغير حد، والمساواة الفعلية بالرجل فى شتى المجالات.

لعلنى استطردت استطرادًا سريعًا من حيث تركنا قاسم أمين شابًا فى باريس يتأمل ويقارن، إلى كتابه الذى صدر بعد ذلك بزمن. ربما كان هذا إحساسًا بأن هذه الفترة هى التى بلورت أفكاره الأولى.

أمر آخر أسهم فى بلورة أفكاره بعد ذلك. فقد عاد من باريس والتحق بسلك النيابة العامة والقضاء، حتى أصبح مستشارًا فى محكمة الاستئناف سنة ١٨٩٢م وخلال ذلك عمل فى مدن أخرى كثيرة. ونظر قضايا مدنية واجتماعية كثيرة. ومرت به صور شتى واقعية من صميم المجتمع المصرى. الصورة التى لا يراها ابن طبقته فى «الصالونات» التى يرتادها.

كان لابد أن يثير مثل هذا الكتاب، من مثل هذا الرجل، الضجة التى أثارها. فلا يكاد يوجد قلم كبير أو صغير دون أن يسهم فى المعركة. ولا يكاد يوجد مطعم دينى أو خلقى لم ينسب إلى المؤلف. وتحكمت السياسة إلى درجة ما فى التيارات التى هبت: فنجد جريدة وطنية كاللواء يفتح مصطفى كامل صفحاتها للهجوم على قاسم أمين وآرائه.

وكان المطعن الدينى أخطر المطاعن.

والغريب أن أولى الصحف التى تجرأت على الوقوف إلى جانب قاسم أمين كانت «المنار»، التى كان يصدرها محمد رشيد رضا، تلميذ الشيخ محمد عبده، فتقول: «إذا توهم بعض الناس أن ما ورد فى كتب الفقهاء من استحسان عدم كشف وجه المرأة وعدم مخالطتها الرجال دفعًا للفتنة، هو من الأحكام الدينية التى لا يجوز تغييرها، فإننا نقول إن هذا الاعتراض مردود بأن الأحكام الشرعية جاءت فى الغالب مطلقة وجارية على ما تقتضيه العادات الحسنة ومكارم الأخلاق ووكلت فهم الجزئيات إلى أنظار المكلفين ووضعتها تحت اجتهادهم، وعلى هذا جرى العمل بعد وفاة النبى بين أصحابه وأتباعه».

وليس هذا غريبًا. ولعل مهمة قاسم أمين كانت ستصبح أكثر صعوبة لو لم يسبقه الشيخ محمد عبده إلى معركة تطهير الدين من الخرافات التى علقت به عبر عصور الانحطاط.

لم يعش قاسم أمين طويلًا. لقد أصدر بعد ذلك كتابًا حول نفس القضية بعنوان «المرأة الجديدة» لم يتراجع فيه خطوة إزاء الحملات، بل زاد تأكيدًا لرأيه، وطالب صراحة ببعض ما كان لا يصرح به كحق المرأة فى العمل وفى التعليم بشتى مراحله. وأسهم فى الحياة العامة مساهمات قيمة، كان أبرزها دوره إلى جانب صديقه سعد زغلول فى تأسيس الجامعة المصرية. ومات قاسم أمين سنة ١٩٠٨م وهو فى الخامسة والأربعين من العمر.

ولكن حركة التنوير كانت قد بدأت تلتقط أنفاسها من جديد. وبعد موته بأحد عشر عامًا نشبت ثورة أخرى، قادها رفاق شبابه الذين شاهدوا معه مصرع الثورة العرابية.