جريدة الدستور
رئيس مجلسي التحرير والإدارة
د. محمد الباز

«لي مع الله أسرار».. عبد الحليم حافظ وتفاصيل «العُمرة» الأخيرة واعتزال الصوم وكتابة القرآن على الهواء

عبد الحليم حافظ
عبد الحليم حافظ

لم يكن عبد الحليم حافظ خاشعًا أو مطربًا بما يكفي في أغنياته الدينية التي ملأت أيامه الأخيرة، كانت توبة متأخرة عن أشياء ارتكبها في حياته وأراد أن يكفّر عنها بكل الطرق، فقبل للمرة الأولى ما لم يفعله في جميع أغنياته، وأدّى أغنيات اختير لغنائها، ولم يختَرها أو يتدخّل في ألحانها، أو يعدّلها، أو يرفضها ويطلب كلمات بديلة.

 كان العُمر يجري، والمرض ينهش الجسد الضعيف، و«حليم» الإنسان الخائف من اللقاء المحتوم يهزم «العندليب» تدريجيًا، والرجل الذي قدَّم الفيلم صاحب الرقم القياسي في القبلات بالسينما المصرية يتراجع ويتوب ويغرق في الروحانيات، ويفضَّل الصلوات على الحفلات، ورحلات العمرة على سفريات المصايف، وتتحوّل حياته إلى فيلم بخلفية موسيقية من «التواشيح». 

 

صلّى في الأركان الأربعة للكعبة.. ورافقه «مطوّف الملوك والرؤساء»

آخر أيام حليم حفلت بالروحانيات، التي كانت توحي للجميع بشعوره بقرب الأجل رغم عمره الذي لم يتجاوز الـ48 عامًا، إلا أن المرض المتزايد وأعراضه المتطورة كانا يرسلان له رسائل سرية بأن مشهد الختام يقترب، ففي 1976، العام الذي سبق وفاته، زار المملكة العربية السعودية، ليؤدي مناسك العمرة، وحضر غسيل الكعبة، وصلّى في الأركان الأربعة لها، وأشرف على زيارته الشيخ جميل جلال، المسؤول عن طواف الملوك والرؤساء في ذلك الوقت.

عبد الحليم حافظ في منزله

واحتفظ «حليم» بعلاقات مع كبار العائلة المالكة السعودية، سمحت له بأن ينال استقبال قادة الدول، فكان الملك عبد الله بن عبد العزيز وفهد بن عبد العزيز، والأمير سلمان بن عبد العزيز - أمير الرياض الذي صار ملكًا بعد تلك الواقعة بـ39 عامًا - من أصدقائه. 

كانت كل الظروف في مكة المكرمة مُهيّأة لاستقبال العندليب، الفندق المهيب والتسهيلات الكبيرة وملابس الإحرام، التي ارتداها «حليم» فور وصوله، ولم ينتظر طويلًا حتى يرتاح من إرهاق الطائرة. 

عبد الحليم حافظ في المملكة العربية السعودية

وجد في انتظاره مدير شرطة مدينة مكة المكرمة، فسَرَت رعشة بجسده، وتذكّر رحلة الرسول الكريم مهاجرًا من تلك المدينة، كيف غادرها على أمل بأن يعودَ، كما غادرها عبد الحليم مسبقًا قاطعًا على نفسه وعودًا بالعودة، حتى وصل أخيرًا للمرة التي يعتقد أنها الأخيرة، فقرَر أن يفعلَ كل شيء فاته: صلّى وسبَّح كثيرًا، وشارك في طقوسٍ تُكتب في تاريخ المشاركين بها على نُدرتهم. 

 

النفحة الربانية لـ«العندليب»: «شفت حاجات حلوة مش هحكي عنها»

تصادف مع وصوله الأراضي السعودية موسم غسل الكعبة، فاعتبره «حليم» نفحة ربانية أتته من حيث لا يحتسب، ووجد نفسه مشاركًا، فدخل الكعبة وصلّى بأركانها الأربعة، ثم عاد إلى القاهرة وهو «في منتهى السعادة» وفق قول محمد شبانة، نجل شقيقة، الذي روى أنه كان يعيد ويزيد في وصف ما رآه داخل الكعبة، ويقول لأسرته: «أنا شفت حاجات حلوة بعدما صليت في الكعبة بس مش هقدر أحكي لكم عنها».

مرَّت عدة أشهر من الصمت الذي لم يقطعْه «حليم» برواية تفاصيل النعيم الذي عاشه ورآه لدى دخوله الكعبة وبعد خروجه منها.

أعدّ «حليم» كل الترتيبات لرحلته الأخيرة إلى لندن، وبقى شيء واحد أوحى له بأنّ سفرية «مارس 77» ستحمل أقدارًا أخرى ومصيرًا مختلفًا.

كان متردّدًا تجاه السفر وجدواه، فجراحات زراعة الكبد حديثة على العالم، ومخاطرها أضعاف فوادئدها، فاعتبرها مقامرة بالعُمر، لكن لا بديل عن تلك المُقامرة، فبدأ يودّع غُرف المنزل التي احتوته وشهدته على دموعه وصلواته وتراتيله. 

يخرج من غرفه ويدخل أخرى بخطوات جنونية، ويبحث عن شيء لا يعرفه، لكن ربما يتعثّر بأحد الأغراض التي تؤنسه فيراها للمرة الأخيرة، وكان معتقدًا أنه لن يعودَ. ومن عاداته الأسيرة، الكتابة على أي حائط يقابله قبل السفر، يكتب أدعية وآيات قرآنية ورسائل إلى الله، وشفرات لا يجيد فكّها سوى المقرّبين منه روحيًا. وكان آخر ما كتبه على الحائط قول الله تعالى «إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد» ولا يزال باقيًا من الرحلة السابقة، والآن يريد أن يكتب ذكرى جديدة. 

الكتابات على جدران منزل العندليب

بحث عن قلم ليكتب، فلم يجد، وبحثت الأسرة كلها عن قلم، وكان البيت فوضويًا فلم يجدوه، وكانت تدور برأسه آية يريد أن يكتبَها ويتركها ذكرى حتى يستعيذ ويستأنس بها حين يعود، فكتبها على الهواء بالإشارة بإصبعه محاولًا إخفاء حالته غير الطبيعية. حينها تأكّد الجميع أنه يودّع البيت، وأن القادم من حياته لن يكون كالمرات السابقة، التي نجا من شرِّها وخرج سالمًا.

وصل لندن ليلًا لينزل بمستشفى الكلية الملكية، وتوفي في مارس من عام 1977، قبل أن يعود إلى القاهرة مرة أخرى محمولًا داخل صندوق على متن الطائرة. 

وما بين الصلاة الأولى في حياته والمشهد الأخير، الكثير من قصص القرب إلى الله والبعد عنه، التمسُّح بطرقه وأوليائه الصالحين وأحبائه الفقراء، والغفوة عن العبادة والذكر والصلاة.

 

قصة الركعة الأولى في حياته والمصحف «الهدية».. ورحلته مع القرآن

صلّى عبد الحليم حافظ الصلاة الأولى في حياته بمسجد قرية «الحلوات» في الشرقية، وراء جده الشيخ شبانة، الذي كان إمام المسجد، وأشهر حفظة القرآن بالقرية، وأعذبهم صوتًا حتى وُصف بـ«مقرئ تسكت له الطير». 

ينتمي «حليم» - بالميلاد - لأسرة محافظة ومتدينة، فشقيقه الأكبر إسماعيل، الذي شقّ طريقه في الغناء أولًا قبل أن تعطّل مسيرته وفاة الأب والأم ليصبح مسؤولًا عن الأسرة بالكامل، كان متدينًا لا يفوّت فرضًا، ويحاول هداية جميع من حوله، فعلّم شقيقه القراءة من المصحف والصلاة والتسبيح وأهداه مصحفًا حين نجح في سنوات الدراسة، ودرَّبة على الخشوع، حتى صار «حليم» يرى القرآن تحليقًا في السماء، يقول في مذكراته التي تولّى نشرها صديقه، الصحفي منير عامر: «القرآن هو صعود إلى أعلى، وإلغاء للكراهية، ورحلة حب وتقوى تعرفك أن الله يحب الإنسان وأن الحياة رحلة كفاح جميلة وعذبة».

نظرة «حليم» إلى القرآن جعلته مشدودًا إليه طوال حياته بحبل سُري، فكان يلجأ إلى الآيات كلما شعر بضيق في صدره أو مرض بجسده، ثم صارت قراءة القرآن طقسًا يوميًا. يومه «المقلوب» لخوفه من النزيف الذي يهاجمه ليلًا جعل «الثانية مساءً» موعد استيقاظه. يفطر ويكلّم جميع شركاء أعماله في التليفون ليتفق على البروفات ويعدّل الكلمات ويسمع الألحان المقترحة، ثم يغلق الهاتف، ويخلو إلى نفسه ليقرأ القرآن حتى موعد البروفات. 

حفظ القرآن في صغره حتى ينجو من «عصا شيخ الكُتّاب» ثم تحوّل إلى طاقة نور لحياته، وردّ الجميل فيما بعد ببناء مسجد «الفتح» في الزقازيق، وتجديد مسجد «المشايخ» بقريته. 

العندليب خلال مرضه الأخير

 

مات «طبيًا وعلميًا» قبل وفاته بأشهر.. واعتقد أن بقاءه حيًا «تدخُّل ربَّاني»

لم يكن «حليم» سلفيًا، «ينظِّر» في الفتاوى ويبحث عن الحلال ويتجنّب الحرام. كان يميل إلى الصوفية، والدين - في نظره - هو راحة القلب، التي تأتي من التديُّن الحقيقي القائم على حب الناس، ومساعدتهم، وفعل الخير سرًا وجهرًا، والثقة بالله. كل من دخل بيت «حليم» كان يروي أنه لا يخلو من الفقراء والمحتاجين، ولم يذكر أحدهم أنه انزعج يومًا، بل كان يوصي بهم آل البيت خيرًا، ويمنحهم ممّا يحب. 

كان «حليم» يثق بالله دون تردّد أو لحظة شك، لا يثق فقط في رحمته ومغفرته، إنما في قدرته على تعديل مسار الأمور وكرمه في تقدير وتوفيق مسارات بديلة، فالجسد قد يعصى العبد، ولا يجرؤ على عصيان ربه، تلك الحِكمة منحته القدرة على الحياة عمرًا أطول، وهو يعتقد أنه سيعيش أيامًا أخرى ويرى أنّ الله أمدّ في عمره رغم أنه كان من المفترض أن يموت قبل ذلك الموعد، طبقًا لتوقعات وتحليلات الأطباء، حتى أن الحاجة زينب، ابنة شقيقته، قالت في حوار لصحيفة «العربي» اللندنية: «خالي - صحيًا - كان منتهيًا قبل وفاته بفترة طويلة ولكنه عاش بتأثير حبه للفن وعطائه فيه، وحب الناس له هو الذي ساعده على مواجهة محنته الصحية».

وفي أكسفورد، يُعالَج «حليم» من نزيف المعدة، ويؤكِّد له الأطباء أن هذه أخطر علامات المرض، التي تنذره بأنه وصل إلى آخر الأرض التي يعرفها العلم والطب، حيث لا عودة إلى الصحة والعافية مرة أخرى، أما هو فكتب: «لا أصدق الموت، أحس أني أخدعه وأهرب منه». ما يدفع «حليم» للحياة مرارًا كان رغبته في النجاة، وثقته بأن الله لن يضيّعه أبدًا.

لازمه الاعتقاد بأن «الله يمنّ عليه ويسنده» كلما رجع إليه طوال مراحل حياته، كانت تلك تميمته الصوفية وكلمة سره التي تجلب له الرزق والنجاح والقوة.

 

وصفة «الرزق والنجاح» في حياة «حليم»: يصلي ركعات عشوائية لا أحد يعرف سرها!

حين كانت البروفات تستمر بالأيام لعدة أشهر لتجهيز أغنية جديدة، كان حليم يترك الفرقة ويفرش سجادة الصلاة داخل غرفته ويغرق في الخشوع والوحدة، يؤدي الفرض ويزيد ركعات لا أحد يعرف سرَّها سواه، ربما كانت ركعات عشوائية يشعرُ أنها كانت تقربه إلى ربه، وتدنيه من أحلامه. 

كانت تلك وصفته التي رواها جميع من عملوا معه، الوصفة التي لم تخذله أبدًا في جلب الرزق والنجاح. 

وفي عدة أيام، كانت الفرقة تقوم إلى صلاة الجماعة، ليساوي الصفَ معهم، ويصلي مرة أخرى.

وكان شقيقه، محمد، ملتزمًا يرتدي الجلباب والطاقية، ويؤمّ أفراد الأسرة في الصلاة دائمًا، وتصفه الصحف بـ«الشيخ محمد شبانة» الذي أجبر حسن يوسف على الصلاة. 

اضطر «حسن» الشهير بأدواره الرومانسية للإقامة في منزل حليم أسبوعًا، ونشرت إحدى المجلات قصة مصورة لما جرى خلال الأسبوع، وكان مليئًا بالعجائب والغرائب والطرائف، فحسن يوسف يأكل كثيرًا حتى أن ميزانية الطعام بالمنزل تضاعفت، كما أنه يطيل البقاء في الحمام، حتى أن العندليب يدق باب «التواليت» طويلًا وهو يغني: «افتح يا حسن». 

حقيقة صورة «الصلاة إمامًا بحسن يوسف».. واعترافه بـ«اعتزال الصوم»

الصورة الأشهر في الأسبوع، كانت لحسن يوسف وهو يصلي وراء الشيخ محمد شبانة، وكتبت المجلة تعليقًا: «مجبر أخاك لا بطل يصلي حسن يوسف خلف شقيق عبد الحليم.. إن الصلاة لا تفوته أبدًا». 

نقل بعض محبي «حليم» تلك الصورة – لقلة جودتها – باعتبارها صلاة مشتركة بين حسن يوسف والعندليب، إلا أن التعليق الذي لم يكن متداولًا يكشف أنه شقيقه، لكن العندليب لا يحتاج إلى صورة استعراضية لأجل إحدى المجلات كي يدلّل على إيمانه وصلاته، يكفي ما يقوله ويعترف به في مذكراته، التي نشرت بعد وفاته، حول الله والدين وتأنيب الضمير الذي كان يشعر به حين يبتعد عن الله، فلم يكن مسلمًا «طقوسيًا» يقيم الفرض بفرضه، ويحرص على جميع التفاصيل الدينية، إنما كان مؤمنًا بـ«القلب» يشعر أن الله يحيط به من كل جانب، ويعتبر ذلك دينًا في رقبته، يفعل كل شيء مع عباده كي يردَّه، وكان يصلي ويسبّح ويقرأ القرآن، لكن صلاة «متقطعة».

في السبعينيات، بدأ «حليم» عدم الانتظام في الصوم والصلاة لدواعٍ صحية وغير صحية، ورغم ذلك ظلّ مؤمنًا بالرباط المتين الذي يصله بالله مباشرةً، وسط سخريته من أشقائه وأبنائهم بقوله: «مش أنا مش بقدر أصوم وبقطع في الصلاة؟.. بس هدخل الجنة أول واحد فيكم».

No description available.