محمد رسول العلم ـ 2
لقد كان تعلم النبي للقراءة أمرا حتميا استلزمته مهمة شاقة هي تدوين وحفظ القرآن الكريم، وهو ما يستلزم متابعة النبي لفريق عمل كبير من كتبة الوحي، ما بين ستة وعشرين إلى اثنين وأربعين كاتبًا.
ومن الأحاديث الدالة على ذلك قول مُعَاوِيَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُنْتُ أَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا مُعَاوِيَةُ، أَلْقِ الدَّوَاةَ، وَحَرِّفِ الْقَلَمِ، وَانْصُبِ الْبَاءَ، وَفَرِّقِ السِّينَ، وَلا تُقَوِّرُ الْمِيمَ، وَحَسِّنِ اللَّهَ، وَمِدِّ الرَّحْمَنَ، وَجَوِّدِ الرَّحِيمَ"(أخرجه السمعاني في أدب الإملاء وذكره القاضي عياض في الشفا).
وعَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا غُلامٌ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، يَبْكِي، فَقَالَ: مِمَّ بُكَاؤُكَ؟ قَالَ: ضَرَبَنِي النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، قُلْنَا: لِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: مَدَدْتُ الْبَاءَ قَبْلَ السِّينِ" يَعْنِي فِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (أخرجه السمعاني في أدب الإملاء).
إضافة إلى أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان رجل دين ودولة، وما يترتب على ذلك من إرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء واستقبال الردود وإبرام المعاهدات، وهو ما يستلزم معه ضرورة الإلمام بالقراءة والكتابة.
ومن أدلة ذلك عن عبدالله بن الزبير، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، استكتب عبدالله بن أرقم فكان يكتب عبدالله بن أرقم، وكان يجيب عنه الملوك، فبلغ من أمانته أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك فيكتب، ثم يأمره أن يكتب ويختم ولا يقرأه- لأمانته عنده- ثم استكتب أيضا زيد بن ثابت فكان يكتب الوحي، ويكتب إلى الملوك أيضا، وكان إذا غاب عبدالله بن أرقم وزيد بن ثابت واحتاج أن يكتب إلى بعض أمراء الأجناد والملوك، أو يكتب لإنسان كتابا يقطعه، أمر جعفرا أن يكتب، وقد كتب له عمر وعثمان وكان زيد والمغيرة ومعاوية وخالد بن سعيد بن العاص وغيرهم ممن قد سمي من العرب".
كما ورد في صلح الحديبية أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد مارس الكتابة بنفسه، فعن البراء، قال: لما صالح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مشركي قريش كتب بينهم كتابا: "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم" فقالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نقاتلك فقال لعلي: " امحه " فأبى فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وكتب: " هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله" واشترطوا عليه أن يقيموا ثلاثا ولا يدخلوا مكة بسلاح إلا جلبان السلاح، قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: ما جلبان السلاح؟ قال: السيف بقرابه أو بما فيه" (صحيح مسلم).
ثمة مهمة أخرى لا تقل أهمية، وهي مسألة النسخ في القرآن بصوره المختلفة، والتي كان يصاحبها إعادة ترتيب الآيات والسور، وهي مهمة اضطلع النبي، صلى الله عليه وسلم، بالإشراف الكامل عليها.. أما قوله تعالي: "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" سورة العنكبوت آية 48، فدخول كان على المضارع تفيد نفي الفعل أو العادة وليس نفي القدرة أو المعرفة، وبالتالي فالآية لا تجزم بأمية النبي ولكنها تعني أن النبي لم يكن يباشر كتابة الوحي بنفسه، وهذا أمر منطقي إذا وضعناه جنبا إلى جنب مع كيفية نزول الوحي على النبي.
فعن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام، رضي الله عنه، سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما أقول. (صحيح البخاري). والصورة التي يكون عليها النبي حينها كما وصفها أحمد بن حنبل: "كان النبي يتوجع ويعض على شفتيه ويغلق عينيه، وفي بعض الأوقات كان يهدر مثل الجمل"، لذا فافتراض تدوين النبي للآيات بنفسه وهو على هذه الحالة تبدو مستحيلة والطبيعي هو اتخاذه عددا من كتبة الوحي.
* كاتب وباحث مصري